نجح عدد من الدعاة في الفترة الأخيرة في تقديم خطاب ديني يستند إلى أسس التنمية البشرية، التي تتعرف على مشكلات النفس والشخصية الإنسانية، وتضع لها وصفات علاجية تجمع بين ما جاءت به العلوم الشرعية، وما أيدته العلوم الحديثة في العصر الحالي.
ولأن هذا الخطاب كان خطابًا علميًا ناجحًا؛ فقد سهل ذلك على الدعاة الجدد الدارسين للتنمية البشرية في الوصول إلى الطبقات العليا من المجتمع التي كانت خارج نطاق تأثير الخطاب الديني.
وكان لافتاً أن الدعاة الذين يقدمون خطابًا دينيًا ذا محتوى لعلوم التنمية البشرية أصبحوا هم نجوم الحركة الدعوية الإسلامية، والأكثر تأثيرًا فيها؛ لأنهم واكبوا العصر، وخاطبوا أفراد المجتمع وخاصة الشباب منهم بلغة تربط بين اتباع التعاليم الإسلامية وتحقيق النجاح في المجتمع؛ لأنها تضع لهم وساطات حول كيفية النجاح، والتخلص من الفشل والكسل وطرد الأوهام والعجز وصناعة الأمل.
وشهدت الساحة الدعوية نجوماً كثراً في هذا المجال، لعل من أبرزهم الداعية طارق سويدان، ود. إبراهيم الفقي، الذي اختتم حياته بالجمع بين ما هو دعوي وتنمية بشرية واكتسب أنصارًا كثراً في العالمين العربي والإسلامي.
وهو ما يدفعنا إلى الحديث حول أهمية التنمية البشرية ودورها المؤثر في الخطاب الديني، وعدم التخلي عن هذا الترابط الذي أنتجته عقول دعوية إسلامية على الرغم من تنبه مراكز علمية غربية وقوى علمانية داخلية لمدى تأثير هذا الخطاب ومحاربته والتسفيه منه، والتضييق عليه، وهو ما أدى إلى انحصاره في الفترة الحالية.
وتهدف التنمية البشرية إلى كل ما من شأنه الارتقاء بوضع الإنسان؛ فردًا ومجتمعًا، لأن ذلك هو الهدف الأساسي للتنمية البشرية الذي يستعين بأدواته لتحقيق تلك الأهداف من علوم الطب النفسي، والاجتماع، والفلسفة والمنطق، وبعض النظريات السياسة، وهو يصبح ناقصًا ومعيبًا في الخطاب الديني إذا ما كانت المفردات والمصطلحات الغربية هي المسيطرة بدلًا من النصوص الدينية والقرآنية.
إشكالية التنمية البشرية في الخطاب الديني
ودون الخوض في تعريفات كثيرة للتنمية البشرية، والخلافات حولها، فإن التنمية البشرية هي منتج بشري غربي يشبه تمامًا الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي، ووسائل الاتصال الحديثة، والأجهزة الطبية، والأدوية التي أنتجها العقل الأوروبي، ويحتاجها عالمنا الإسلامي ونستخدمها في الحفاظ على الإنسان أو الارتقاء به، فيصبح الفيصل دائمًا في كيفية استخدام هذه المنتجات الغربية بطريقة تتوافق مع أهداف الإسلام العليا، التي في أساسها السمو بالإنسان، والارتقاء به عقليًا وأخلاقيا ووضعه في المربعات التي طالبت بها النصوص القرآنية دائمًا وهي التدبر والتفكر والرحمة والتسامح والعدل والمساواة.
وتستخدم التنمية البشرية في الخطاب الديني بعدما نجحت بشكل مذهل في الخطاب التبشيري ودعاة المسيحية الذين استخدموا جميع هذه الوسائل من تنمية بشرية وعلوم الاتصال الحديثة التفاعلية، وكل منتجات الذكاء الاصطناعي الحديثة، وهو ما يطرح سؤالًا للرافضين لاستخدامات علوم التنمية البشرية في الخطاب الديني: كيف ينجح الخطاب الديني في الوصول إلى فئات الشباب التي تشكل أكثر من 60% من المجتمعات العربية والإسلامية، وهي تنفق معظم وقتها في استخدام تلك المنتجات الحديثة؟
وهل يفيد الإسلام ترك هذا العدد الكبير من الصبية والشباب يستمتعون على وسائل التواصل الاجتماعي بأداء دعاة التبشير المبهر باستخداماتهم التنمية البشرية وعلوم الاتصال الحديثة بحجة أن هذا منتج علماني معادٍ يؤثر على مضمون الدين؟ أم أن العقل الإسلامي عليه دائمًا أن يبدع ضوابط جديدة لاستخدامات كل المنتجات الحديثة التي تنتجها مراكز العقول والبحث في أوروبا بحيث يتم في النهاية تطويعها لخدمة الخطاب الديني الإسلامي وتأثيره وتحقيق أهدافه؟
ويبدو أن الفيصل الأساسي في هذا الأمر هو في كادر الدعاة الذين يتصدون للخطاب الديني، ويستخدمون علوم التنمية البشرية كمؤثرات على الشباب، عليهم التدرب جيدًا على تغليب لغة الخطاب الديني على مصطلحات التنمية البشرية والتدليل بالنصوص الدينية والاستناد إليها كحقائق مطلقة للنجاح والسعادة، مع استخدام تلك القوالب المعروفة في التنمية البشرية، إضافة إلى الحذر من تسييد مفاهيم غربية كالتي تركز على الحرية المطلقة، أو حرية الجسد، أو حرية العقيدة وخلافها.
مزايا التنمية البشرية في الخطاب الديني
وعلى الرغم من الإشكاليات السابق الإشارة إليها، لا يمكن للباحث أن يغفل أن هناك مزايا يمكن الاستفادة منها في استخدامات التنمية البشرية في الخطاب الديني، يمكن إبرازها في الآتي:
– تساهم في تحسين المهارات الاجتماعية مثل التواصل الفعّال، التعاون، والقيادة؛ مما يعزز التفاعل الإيجابي بين المسلمين، وخلق خطاب أقرب لنفوس الشباب المنصرف إلى الثقافة الغربية.
– الخطاب الديني الذي يستفيد من التنمية البشرية يشجع المسلمين على تحمل المسؤولية تجاه أنفسهم ومجتمعهم، والعمل على تحسين الظروف المحيطة بهم، كما يدفعهم إلى الإتقان في العمل والسعي للإحسان في كل المجالات الحياتية.
– الاستخدام الديني للتنمية البشرية يساعد على وضع ضوابط شرعية لها؛ مما يساهم في عدم الانحراف عن القيم الدينية، والسير وفق ضوابطها.
عيوب التنمية البشرية في الخطاب الديني
ويمكن إجمالًا، الإشارة إلى عيوب استخدامات علوم التنمية البشرية في الخطاب الديني، في التالي:
– المصطلحات العلمانية يتم استخدامها مع إضفاء طابع شرعي عليها دون توضيح دقيق لمحتواها وتوافقها مع الشريعة الإسلامية.
– بعض الحقائق والمفاهيم الشرعية يتم تجاهلها أو معارضتها بمفاهيم حداثية، مثل عقوبة المرتد والاختلاط والفن وحرية المرأة وتحرير العقل.
– عدم الاستناد إلى الأسس والمفاهيم الشرعية، واستبدال مفاهيم مجتمعية وإنسانية بها، مثل؛ ثوابت المجتمع، وعادات المجتمع، وأخلاق المجتمع، وقيم المجتمع؛ ما يؤدي إلى إضعاف هوية الدين، والقيم الإسلامية.
– استخدام مصطلحات ضبابية غير محددة مثل قبول الآخر، والتسامح، والانفتاح، يشكل خطرًا على الخطاب الديني؛ لأنه يتهرب من التعليمات والنصوص الحاسمة في الإسلام التي تضبط العلاقات بين الجنسين، وتعتمد على الثواب والعقاب كمنهج لتقويم المجتمع.
– التأثير الواضح لمفاهيم الثقافة الغربية على التنمية البشرية وتركيزها على الفرد باعتباره محور هذه الثقافة بدلاً من المجتمع؛ وهو ما يعزز النزعات الذاتية على حساب الولاء للجماعة الإسلامية.
– الإعجاب والانبهار بالشخصيات والأفكار الغربية، مما يحول هذه الشخصيات إلى نماذج يقتضى بها بدلًا من الرموز الإسلامية التي تشكل نموذجًا للمسلمين على مر العصور، وهو ما يضعف هوية المجتمع الإسلامية بشكل عام.