لم تكن دولة الكيان الصهيوني سوى مستعمرة زرعتها الإمبريالية الأمريكية والأوروبية في قلب الأمة العربية والإسلامية، وخاصة بعدما فشل العرب في تحقيق استقلالهم السياسي والاقتصادي والتحرر من التبعية والهيمنة الأوروبية والأمريكية؛ الأمر الذي ساهم في نجاح اليهود من استغلال الضعف العربي لزرع جذور دولتهم المزعومة في منطقة الشرق الأوسط وعلى الأرض العربية.
فقبل ما يزيد على 75 عاماً، وتحديداً في العام 1948م، استطاع اليهود إعلان دولتهم بالقوة العسكرية والمساندة الأوروبية والأمريكية لتكون جسماً استيطانياً غريباً تلفظه المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط.
ولكن الاستعمار الإمبريالي ساهم في غرسها لتحقيق أهدافهم وإستراتيجيتهم تجاه العالم العربي، التي تنطلق من الإيمان بضرورة تقسيمه إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه، فعالم عربي منقسم وممزق ومشتت يسهل السيطرة عليه سياسياً وثقافياً وفكرياً، ويفتح مجالاً كبيراً للتدخل الأمريكي والغربي في كافة قضاياه، ورسم سياساته، بما يتوافق مع المصالح الأمريكية والغربية، وتعزيز الوجود الصهيوني المتفوق عسكرياً واقتصادياً لإرهاب المنطقة وتطويعها.
إعادة تشكيل المنطقة
هناك توافق بين مكونات الفكر الصهيوأمريكي على ضرورة إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتماشى مع مصالحهما الإستراتيجية، وهو ما يتضح اليوم عند الحديث عما يسمى بـ«دولة الكيان الكبرى» كنواة لهذا المشروع بتوسعة رقعتها القائمة دون حدود معلنة، من خط فيلادلفيا مروراً بمصر حتى الليطاني، ومناطق من شرق نهر الأردن بالمملكة مروراً بجنوب غرب سورية وربما أكثر.
فعلى منصة الأمم المتحدة، وقف قبل أيام رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو في قاعة شبه فارغة انسحب منها معظم ممثلي دول العالم، مزهواً منتشياً وكأنه رئيس لحكومة كل العالم وكحاخام أكبر يتلو نصوص التوراة التلمودية، ويحدد خرائط المنطقة بل والعالم الذي يريده كزعيم لـ«شعب الله المختار» و«قوى الخير» في العالم، ويدوس على كل القرارات الدولية في مجلس الأمن، وحتى الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة التي يخطب من قاعتها، ويتهم العالم بمعاداة السامية ومعاداة الضحية الوحيدة في التاريخ، بل حتى بمعاداة أسس الأمن والسلم العالمين الذي يرى في نفسه الحريص الوحيد عليها في مواجهة «قوى الشر»، ويعلن بأن حربه القائمة الآن على مختلف الجبهات، هدفها عملية تغيير وجه الشرق الأوسط بالتعاون مع حلفائه الأمريكيين والأوروبيين، الذين أعلنوا دعمهم الكامل لكل القرارات الصهيونية دون التفات حتى لحلفائهم العرب في المنطقة.
الشرق الأوسط الجديد
إن الشرق الأوسط الجديد الذي يريده نتنياهو في تصريحاته وخطاباته، وتتماهى معه الولايات المتحدة والدول الغربية، لا مكان فيه لدولة فلسطينية، أو دولة كانتونات منزوعة السلام تحت السيطرة الأمنية والعسكرية والاقتصادية الصهيونية، ولا مكان فيه لفصائل المقاومة في المنطقة، ولا مكان فيه للقضايا العربية المشتركة، شرق أوسط يقبل بوجود دولة الكيان كدولة طبيعية قوية تفرض هيمنتها في المنطقة دون منازعتها أو الوقوف في وجه أطماعها، وجر الدول العربية للتطبيع معها خوفاً على مصالحها.
شرق أوسط جديد يختلف عن الذي يريده الفلسطينيون الذين يرون في دولة الكيان دولة استعمار واحتلال، ويرون في المقاومة التي كفلتها القوانين والمواثيق الشرعية السبيل الوحيد لنيل حقوقهم المسلوبة والانعتاق من الظلم الجاثم عليهم منذ احتلت دولة الكيان أراضيهم وسلبتهم إرادتهم وحقهم في العيش الكريم كباقي دول العالم.
شرق أوسط يختلف عن الذي تريده الدول والشعوب العربية، التي ترى في السلام سبيلاً لحل الخلافات على أساس المبادرات والاتفاقيات التي لا تؤمن بها دولة الكيان التي بنت سياستها على القوة والترهيب، متسلحة بأمريكا وقوى العالم الغربي التي تساندها وتدعمها في ظل التشتت العربي والانشغال بالقضايا الأخرى على حساب قضيتهم الأولى المتمثلة في القضية الفلسطينية.
سيناريوهات النجاح والفشل
إن فكرة الشرق الأوسط الجديد الذي أطلق فكرته الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عام 2002م، وتبنته الولايات المتحدة الأمريكية عام 2004م، والذي روجت له وزيرة الخارجية كونداليزا رايس حينها كان مجرد رواية تتجدد أفكارها مع كل صراع وتطور في المنطقة لتحسين وجه الحروب التي تخوضها أمريكا عبر وكلائها في المنطقة، وهي تدرك أن هذه الرؤية لا يمكن أن تتحقق مهما بالغت في الترويج لها وتحسين صورتها، ولا يمكن لها أن تنطلي على الشعوب وإن قبلتها الحكومات، وذلك للعديد من الأسباب:
– التوترات المستمرة في المنطقة، التي تؤدي بدورها إلى خلخلة الاستقرار سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، التي تؤدي بدورها إلى صعوبة تنفيذ أي رؤية لتشكيل المنطقة دون حل القضايا العالقة، وأهمها القضية المركزية قضية فلسطين وإنهاء الاحتلال سبب التوترات في المنطقة.
– الاعتقاد السائد لدى الشعوب بأن هذا المصطلح هو استنساخ للمفاهيم والمصطلحات الاستعمارية السابقة، التي كان هدفها تقسيم المنطقة بين القوى الاستعمارية، وإحياء التحالفات الغربية، وإعادة الجهود الاستعمارية للمنطقة، وإعادة تشكيلها من جديد ضمن مصطلح جديد يحمل اسماً براقاً بأهداف خبيثة.
– تنفيذ فكرة مشروع الشرق الأوسط الجديد يتطلب دعماً وقبولاً ضمنياً من المجتمع الدولي، وهو ما لا يتوفر في هذه المرحلة بالذات مع تزايد الانتقادات لسياسات دولة الكيان والانحياز الأمريكي لها في المنطقة، وخاصة فيما يتعلق بالحرب الدائرة اليوم أو بالقضية الفلسطينية؛ مما يصعب الأمور عليهما في هذه المرحلة.
وفي المقابل، فإن تأثير النظام الاقتصادي العالمي وسيطرة الرأسمالية والهيمنة العسكرية والاستبداد الغربي فرضت واقعاً عربياً قاصراً في العديد من المجالات، ربط مصالحه بالمصالح الغربية والأمريكية؛ مما زاد من اتساع الفجوة بين تطلعات الشعوب وتوجهات الحكام التي تتساوق مع النظرة الجديدة للشرق الأوسط، دون إدراك منهم للأهداف الخبيثة من ورائه، التي يمكن أن تستهدف دولهم وأمنهم واقتصادهم، أو ربما يدركون ذلك ولكن العصا الأمريكية والترهيب الأوروبي يجرهم إليه جراً مرغمين لئلا يستهدفهم الغضب الأمريكي والغربي والصهيوني.
السياسة الأمريكية ومخططاتها
إن الأحداث المتتالية اليوم من حرب غزة ولبنان، وما واكبها من تطورات كبيرة، أهمها مواجهة الخطر الذي يحدق بالكيان الصهيوني الحليف الأمريكي والأوروبي، إضافة إلى التحدي الأكبر في مواجهة إيران وتهديداتها الكبرى، حررت السياسة الأمريكية من قيود فاعلة، وأتاحت لها فرصة لتأمن مصالحها في منطقة الشرق الأوسط ضمن سياستها الداعمة لدولة الكيان، وبحجة محاربة الإرهاب ومن ضمنها إضفاء الشرعية على الكيان الصهيوني في المنطقة عبر إجبار العرب على القبول بسياساته، ولو كانت على حساب قضاياهم وعروبتهم، وتحقيق أهداف الصهيونية العالمية التي تصب في قيام دولتهم الكبرى لتحقيق مشروعهم الاستعماري الاستيطاني في المنطقة وخدمة المخططات الصهيوأمريكية، التي تهدف من ورائه إلى ضرب العرب ومشروعهم التحرري النهضوي والحضاري، ومنع أي وحدة عربية، وإعطاء الكيان شرعية الوجود وإقامة العلاقات السياسية والتطبيعية والاقتصادية مع الدول العربية، وتسوية الصراع العربي الصهيوني وفق المخططات الأمريكية والصهيونية، وتحقيق الاستقرار السياسي والأمني للمنطقة بما يخدم السياسة الأمريكية في جعل الشرق الأوسط منطقة آمنة لحماية مصالحها ومصالح حليفتها الصهيونية، وهي مكاسب وأهداف مركزية وأساسية تسعى لتحقيقها لضمان هيمنة وسيطرة دولة الكيان الصهيوني على المنطقة برمتها.