أيام قاسية مرت وما زالت كأنها سنوات من الحرب على منطقة شمال قطاع غزة تم محاصرتها مجدداً من قبل جيش الاحتلال «الإسرائيلي»، مغلقًا جميع المنافذ والمناطق المحيطة بها، مانعاً أي حركة فيها، فالجميع تحت مرمى استهداف صواريخ الاحتلال.
لا صوت للأطفال
ما زالت على شوارع جباليا وتحت ركامها العشرات من جثامين الشهداء فكل محاولات دفنها فشلت كما فشلت محاولات إنقاذهم.
أصوات النازحين في مدرسة الفالوجة أخذت تنخفض شيئاً فشيئاً بعد استهدافها من قبل صواريخ الاحتلال، ومحاصرة المكان، ومواصلة القصف، جعل كل محاولات الدفاع المدني عاجزة على إنقاذ الجرحى حتى اختفت أصواتهم المطالبة بإنقاذهم، حينما ارتقت أرواحهم فلم يعد هنالك حاجة لعمليات الإنقاذ.
ولم يعد الأطفال الذين تواجدوا في المدرسة يشعرون بالخوف أو الجوع حتى لم يعد لهم صوت صراخ من فزع صوت الصواريخ فقد ارتقوا جميعاً.
لا نعلم ما الخطر الذي شكله هؤلاء الأطفال على جيش الاحتلال لاستهدافهم؟!
هو لا يحتاج سبباً لتبرير جرائمه، فهو يرى بأن كل شيء على أرض غزة مستهدف حتى الأجنة في أرحام أمهاتهن!
أكثر من 400 ألف إنسان من الأطفال والنساء وكبار السن والرجال محاصرون تحت قصف الطائرات وضربات المدفعية.
هي أكثر من مجرد أيام حيث يشتد القصف كما لو كانت الحرب في يومها الأول، فالمجازر المتوالية التي ارتكبت فيها جعلت من جثامين الشهداء في الشوارع لا يستطيع أحد أن يقترب منها، فالخطوة ثمنها حياة.
ما زال شمال القطاع يعاني معاناة كبيرة منذ أكثر من عام من تدمير الأحياء أغلبها بشكل كلي، والمجاعة التي تعصف بأمعاء ساكنيها، واليوم زادت المعاناة بعد أن نفد لديهم الطعام والماء، ويمنع الاحتلال إيصال المساعدات إليهم كلياً، ومن يقترب من المناطق الشمالية فلا مجال إلا أن يرتقي شهيداً.
وصية تحت القصف
حاولت تكراراً التواصل مع صديقتي الغالية الزهراء، فبعد محاولات كثيرة نجح الاتصال فكانت الكلمات منها مثقلة بالوجع والخوف، فقد حاصرتها مع عائلتها الدبابات ولا يتوفر لديهم طعام أو حتى ماء.
حاولت مع عائلتها تكراراً الخروج من المنطقة لكن كل المحاولات كانت فاشلة أمام القصف الشديد.
طلبت مني في حال استشهادها أن أكون بارة بها بألا أقطعها من الدعاء والصدقات.
أخبرتها بأنها ستكون بخير، وستكون بحفظ الله ورحمته بإذنه تعالى.
ذكرتها لأعزز من ثباتها بأننا أصحب حق ندافع عن العقيدة الصحيحة، ندافع عن إسلامنا العظيم فقضيتنا عقيدة ودين قبل أن تكون وطناً وطيناً، وأن الله تعالى معنا ولن يضيعنا، وأن هذه المعركة بين الحق والباطل، ونحن أصحاب حق.
في هذه اللحظات قطع الاتصال حيث تم محاصرة مستشفيات الشمال كمال عدوان، والإندونيسي، والعودة، وتهديدهم في حال عدم إخلاء هذه المستشفيات سيتم إحداث مجازر أشبه بمجزرة مستشفى الشفاء.
حاولت معاودة الاتصال لكن لم ينجح الأمر، فما زلت أنتظر منها أن ترسل لي رسالة قصيرة لكن تعني لي الكثير.
أقدم لنفسي الحجج حتى تهدئ نفسي بأن الإرسال انقطع أو قد فرغت بطارية هاتفها النقال، وسوف ترسل رسالة قريباً بأنها بخير.
اليمن الحزين!
وتم استهداف قبل هذا التهديد لمستشفيات شمال القطاع مستشفى اليمن السعيد الذي أصبح حزيناً وتبدلت ملامحه بعد ارتقاء العديد من الجرحى والأطباء كانوا يتواجدون فيه حيث شهد مجزرة فقد بها الاحتلال كل المعاني الأخلاقية والإنسانية.
هذه البشاعة الخالية من الإنسانية لم تنظر بأن المستشفيات لا يتواجد فيها إلا الأطباء والمرضى، وكذلك جثامين الشهداء والأطفال الخدج، وهي بالأصل تعاني جراء استهدافهم من قبل الاحتلال في فترات سابقة، إضافة إلى نقص المستلزمات الطبية والوقود.
ورغم محاولات التنسيق من أجل إجلاء الجرحى، فإن الموافقة لا تعني نجاح الأمر، فقد تم اعتقال مسعفين من سيارة الإسعاف تحمل جرحى ارتقوا بعد تواصل نزيفهم، رغم حصولهم على التنسيق بالمرور.
وكثير ما يزعم الاحتلال أن الانتقال إلى مناطق الجنوب سيكون أكثر أماناً، لكن حقيقة الأمر غير ذلك، وما يدلل عليه حجم وعدد المجازر التي يرتكبها الاحتلال ليلاً ونهاراً على مناطق متفرقة في الجنوب واستهداف الخيام بدون أدنى رحمة.
وما إن حاولت أم بصحبة أطفالها الخروج من مخيم جباليا شمال القطاع حتى تم إعدامهم دون النظر بأنها امرأة لا تحمل إلا أطفالها في محاولة النجاة.
خطة الجنرالات
يهدف الاحتلال خلف هذه المجازر ترويع أهل الشمال، لتهجيرهم إلى الجنوب من أجل السيطرة على المناطق الشمالية وجعلها مناطق عسكرية خالصة له ضمن تحقيق خطته تحت مسمى «الجنرالات»، التي يسعى من خلالها العدو إلى إخلاء منطقة غزة من سكانها، وبدأت من شمال القطاع.
ورغم كل محاولاته ومجازره، فإن أهل المناطق الشمالية لقطاع غزة ثابتون على أرضهم حتى وإن كان هذا الثبات ثمنه حياتهم.