كاتب المدونة: أحمد بيومي
صيدلي وباحث شرعي
استنكر البعض إطلاق لقب الشهادة على فلان من أئمة الرافضة الإمامية الذي شارك بقواته في مواجهة الثوار في سورية إبان اندلاعها، ونتج عن ذلك سقوط الآلاف من أهل السُّنة بين قتيل وجريح، فوجب التنبيه على أمور منها:
أولاً: إطلاق لفظ الشهيد على كل مسلم مقتول في قتالٍ في سبيل الله هو الأصل، لنهي الله تعالى عن تسميته بالميت كسائر الأموات، فقال الله تعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ [البقرة: 154]، فذكر الطبري أن المراد نَهْيُ الله تعلى خَلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى[1]. وكان الناس يقولون: مات فلان ومات فلان، فأنزل الله تعالى الآية[2]. قال مكي بن أبي طالب: هذا يدل على أنه لا يُقال للشهيد ميت، إنما يقال: شهيدٌ وقتيل[3].
وهذا ما أكده ابن تيمية في الآية –في معرض رده على مُحرّمي الانغماس في العدو- بقوله: فنهى المؤمنين أن يقولوا للشهيد أنه ميت، وقد قال تعالى: ﴿بَلۡ أَحۡيَآء وَلَٰكِن لَّا تَشۡعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]، وهذا الوصف يوجد أيضاً لغير الشهيد من النبيين والصديقين وغيرهم، لكن خُص الشهيد بالنهي لئلا ينكل عن الجهاد لفرار النفوس من الموت، فإذا كان هو سبحانه قد نهى عن تسميته ميتًا واعتقاده ميتاً؛ لئلا يكون ذلك منفرًا عن الجهاد فكيف يُسمي الشهادة تهلكة؟ واسم الهلاك أعظم تنفيرًا من اسم الموت[4].
كما دل فعل الصحابة وإقرار الرسول لفعلهم بين يديه على ذلك، فجاء أنه لما كان يوم خيبر أقبل نفرٌ من صحابة النبي ﷺ فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله ﷺ: «كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها» أو عباءة[5]. فإنما أنكر رسول الله ﷺ تسيمة هذا الفلاني بالشهادة لوحي علم به حاله وليس النهي عن أصل الإطلاق، فقد أطلقوا على نفرٍ من قبله فلم يُنكر عليهم، قال النووي: وقوله ﷺ كلا زجرٌ ورد لقولهم في هذا الرجل إنه شهيد محكوم له بالجنة أول وهلة، بل هو في النار بسبب غلوله[6].
أو يكون النكير على الجزم والقطع بالمنزلة في الآخرة لواحد منهم، لما فُهِم من كلام بعضهم أنهم قضوا له بالجنة في نفوسهم، فأوحى إليه بغيب مآل أمره لئلا يشهدوا لحى بشهادة قاطعة عند الله ولا لميت، كما قال رسول الله في عثمان بن مظعون: والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل به، وكذلك لا يعلم شيئًا من الوحى حتى يوحى إليه به ويعرف بغيبه، فقال: إنه من أهل النار بوحى من الله له[7].
وجاء أن رسول الله ﷺ لما انصرف إلى وادي القرى، ومعه عبدٌ له يقال له مدعم، فبينما هو يحط رحل رسول الله ﷺ إذ جاءه سهم عائر، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة -وفي رواية: هنيئا له الجنة- فقال رسول الله ﷺ: «بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم -لم تصبها المقاسم- لتشتعل عليه ناراً»[8].
قال ابن حجر في تبويب البخاري: قوله باب: “لا يقال فلان شهيد”، أي: على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي، ثم قال: فلا يُطلق على كل مقتول في الجهاد أنه شهيد –أي: في الآخرة- لاحتمال أن يكون مثل هذا، وإن كان مع ذلك يُعطى حكم الشهداء في الأحكام الظاهرة، ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء، والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب والله أعلم[9].
فالأصل أن يُسمى قتيل الحرب شهيدًا تجري عليه أحكام الشهداء الظاهرة بدون قطع وجزم بمآله في الآخرة، وقال آخرون: لا بد من الاستثناء، وهذا الاختلاف في الإطلاق أشبه -والله أعلم- باختلاف بعض أصحاب رسول الله في قول الرجل: أنا مؤمن، يريد أصل التوحيد، أو أنا مؤمن إن شاء الله، يريد كماله ومآله في الآخرة، ويتبين منه –كما رجح ابن تيمية- أن النزاع أقرب أن يكون لفظيًا، فإن الذي حرمه هؤلاء غير الذي استحسنه وأمر به أولئك[10].
ومن قال: إنه شهيدٌ قصد الدنيا وأحكامها، ومن قال بالاستثناء قصد حقيقة الحال والمآل، وإن زاد القائل في الشهيد ما يفيد عدم الجزم كنحو قوله: إن شاء الله أو نحسبه فهو الأكمل بالتأكيد، ولا إنكار على من لم يستثن للأمور التي سبق ذكرها.
ثانيًا: هذا الإطلاق يصح لكل من نشهد له بالإسلام والعقل والبلوغ والموت في قتال مع الكفار باتفاق المذاهب الأربعة، وتوسعت الحنفية والحنابلة لكل من مات ظلمًا أو دفاعًا عن النفس، ولو كان غالًا كتم من الغنائم شيئًا فهو شهيد عند الحنابلة، تجري عليهم أحكام الشهداء في الدنيا من الغسل والتكفين والصلاة عليهم، على خلاف فيها بين المذاهب، فمن توفرت فيه الشروط الشرعية صح إطلاق الشهادة عليه باعتبار الدنيا، وبطل النكير على القائل، ومن خالف بعض تلك الشروط فأولى به السكوت، خاصة مع تحقق المصلحة الشرعية في الإطلاق على حليف مشارك في الحرب الدائرة مع اليهود[11].
وانظر: المقال السابق: https://mugtama.com/08/343233/
ثالثًا: من سقط قتيلاً في حرب دائرة مع اليهود رافضًا أن يُسلِم مسلمين سُنّةً للذبح –وقد خذلتهم السُّنة- فأعلن إسناده، وبذل ما بوسعه من دماء وسلاح وعتاد على مدار عام –شهد له به أهل السُّنة في الميدان- حتى قُتل ومعه قيادات الصف الأول والثاني والثالث، وقد مورست عليهم ضغوطات شتى سياسية لفك الارتباط ووقف الإسناد فأبوا! ودفعوا ثمن ذلك دماءهم! فإن لم يشفع له ذلك عند البعض، أفلا يشفع له ذلك عند الله؟!
ومن استدل بحديث الشملة وقاتل نفسه، وقد شهد لهم رسول الله لهم بالنار، ثم قال: إن العبد ليعمل -فيما يرى الناس- عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل -فيما يرى الناس- عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها[12]. فمن كانت خاتمته في نصرة المستضعفين وقتال اليهود والصبر على أذى المخذلين فما أشرفها من خاتمة! وقد سأل العباس بن عبد المطلب النبي ﷺ فقال: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار»[13]. فشفعت النصرة للمشرك الذي لا يُغفرُ مثله، فكيف بمسلم هو خيرٌ منه باتفاق؟!
ومن ذا الذي يمنع رحمة الله أن تدركه بصنيعه ذلك؟! وقد كادت أن تدرك من قال أنا ربكم الأعلى، واستحل دماء الأبناء من مؤمني بني إسرائيل ذبحًا؟! حتى روي أن النبي ﷺ قال: لما أغرق الله فرعون قال: ﴿ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾ [يونس: 90]، فقال جبريل: يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة[14].
وإن أوغل في الدماء كما يُحبُّ البعض أن يتوقف ويدندن حولها فقد سقطت هذه الدماء في قتال تأويلٍ في الشريعة، وإن رفض البعض هذا التوصيف، فقد مارس القتل قبله ألوف ولم يرد عن أحدٍ تكفيرهم وإخراجهم من جملة الموحدين لأجل ذلك، وهذا الحجاج بن يوسف الثقفي الناصبي، “المبير” كما قالت فيه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها -وقد قتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ومثّل به- أما إن رسول الله ﷺ قال: «إن في ثقيف كذابًا ومبيرًا»، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه، فقيل: إنهم أحصوا ما قتل الحجاج صبرًا فبلغ مائة ألف وعشرين ألف قتيل[15]. فعلى كثرة ما سفك من الدماء ما أكفره أحدٌ لأجل ذلك، وإنما كفره بعضهم لكلمات ومواقف صدرت منه، وذكروا مع سيئاته جملة حسناته وجهاده وخدمته للقرآن، كما قال الذهبي: وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله، وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء[16].
وبعد، فمن لم يرق له هذا الموقف الشرعي فليفهم قول المخالف وليتأن في النكير، وليدرك طبيعة اللحظة وحقيقة المعركة، ومن لم ينصر فلا يخذل، وإن دون ذلك النفاق الذي يقول أصحابه: ﴿إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنًا وَتَوۡفِيقًا﴾ [النساء: 62]، أو يقولون: ﴿إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ ﴾ [البقرة: 11-12].
____________________
[1] انظر: تفسير الطبري (2/703)
[2] انظر: تفسير السمرقندي (1/ 105)
[3] انظر: تفسير مكي ابن أبي طالب (1/ 515)
[4] انظر: قاعدة في الانغماس في العدو وهل يباح (ص66)
[5] انظر: صحيح مسلم رقم: 182 – (114)
[6] انظر: شرح النووي على مسلم (2/ 128)
[7] انظر: شرح صحيح البخارى لابن بطال (5/ 92)
[8] انظر: صحيح البخاري رقم: 4234
[9] انظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 90)
[10] انظر: مجموع الفتاوي لابن تيمية (13/40-43)
[11] انظر: الفقه وأدلته للزحيلي (2/1585)، وانظر: كشاف القناع للبهوتي (4/83)، وانظر: المغني لابن قدامة (3/467-477)
[12] انظر: صحيح البخاري رقم: 6493
[13] انظر: صحيح البخاري رقم: 3883
[14] انظر: سنن الترمذي رقم: 3107
[15] انظر: صحيح مسلم رقم: 229 – (2545)، وانظر: سنن الترمذي رقم: 2220
[16] انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 343)