في المتوسط يلتقط الفرد هاتفه حوالي 60 مرة يوميًا، ليقضي عليه ما يُقارب 4 ساعات يوميًا تقريبًا وهو ربع الوقت الذي يكون مستيقظًا فيه باعتبار أنه ينام فحسب الساعات الثماني التي ينصح بها الأطباء.
والإتيان بالإحصاءات عن هذا الموضوع في غاية السهولة بسبب كثرة الأبحاث التي أجريت علينا كمستخدمين للهواتف التي صارت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، بل وفي بعض الأحيان صارت هي محور حياتنا اليومية.
وهنا نركز في هذا المقال على التعريف بظاهرة «التصفح المميت» (Doom Scrolling)، وأهم أسبابها، وأشهر طرق علاجها.
يمكننا تعريف ظاهرة «التصفح المميت» بأنها عملية التقليب المستمرة في هواتفنا بلا هدف معين يلوح في الأفق، ومع أننا في العادة سنصف أي شخص يقوم بعمل متكرر يوميًا لساعات بلا هدف بأنه يعاني من مشكلة حتمًا، إلا أننا بالفعل نقوم بهذا كل يوم على هواتفنا! وقد نعترف أن هذه مشكلة لكننا نُسلم بعدم القدرة على مواجهتها أو لا نرى فيها مشكلة أصلًا بحكم أن كل من حولنا مثلنا.
لماذا لا نستطيع التوقف عن النظر في هواتفنا؟
صُممت مواقع التواصل الاجتماعي التي غالبًا تكون هي ما نتصفحه حين نمسك هواتفنا، صُممت بحيث تجعل مستخدميها يقضون أطول وقت ممكن عليها، وليس هذا ضربًا من الأوهام أو نوعًا من نظريات المؤامرة، بل هي اعترافات شخصية سجلها من كانوا جزءًا من فريق تصميم تلك المواقع في الفيلم الوثائقي «المعضلة الاجتماعية» (The Social Dilemma)، بالإضافة إلى مئات الأوراق البحثية التي سودتها أحبار ما اكتشفه الباحثون أثناء إجراء الأبحاث على مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي.
تعتمد تلك الإستراتيجية في التصميم على نظام المكافآت في الدماغ لدينا، وأحد أجزاء هذا النظام هو قدرتنا على التنبؤ بالمكافأة (Reward Prediction Error) التي لها ثلاثة أحوال:
1- أن تكون المكافأة مطابقة للتوقع.
2- أن تكون المكافأة أدنى من مستوى التوقعات: في هذه الحالة تنخفض مستويات هرمون الدوبامين (وهو ما اشتهر وصفه بهرمون السعادة أو المكافآت، وإن كان في هذه التسمية قدر كبير من التجوز) تنخفض لأقل من مستوياتها الطبيعية في الجسم؛ ما يجعلنا أقل رغبة في تكرار هذه التجربة في المستقبل.
3- أن تكون المكافأة أعلى من مستوى التوقعات: في هذه الحالة ترتفع مستويات هرمون الدوبامين إلى أعلى مما كانت عليه قبل الحصول على المكافأة؛ ما يجعلنا أكثر رغبة في تكرار هذا التجربة أو هذا السلوك في المستقبل.
وتستغل مواقع التواصل قدرتنا على التنبؤ بالمكافآت من خلال تصميم مواقعها بنظام المكافآت المتغيرة، بمعنى أنك تستمر في التصفح حتى تجد هذا «البوست» أو هذا المقطع الذي ينال إعجابك أو يُسليك فترتفع مستويات الدوبامين بمجرد عثورك عليه ثم بمرور الوقت ما تلبث أن تعاود الهبوط للمستويات الطبيعية فما يكون منك إلا أن تقوم بـ«السحب للتحديث» لعلك تجد ضالتك المنشودة التي ترفع نسبة الدوبامين لديك.
الآثار السلبية أسوأ كثيرًا مما نتخيل
لا تقتصر الآثار السلبية للتصفح المميت على مجرد تضييع الأوقات، وإن كان فيها الكفاية فهي عمر الإنسان حرفيًا، ولا يجدر به أن يوزعه يميناً وشمالاً على كل من هب ودب في تلك المواقع، لكن الإنسان قد لا يدرك ما فاته إلا بعد مرور فترة من الزمان كفيلة بملاحظة أثر ما ضاع، وهذه بعض الآثار الملحوظة تم إثباتها في أكثر من دراسة علمية:
1- تقليل كثافة المنطقة الرمادية في الدماغ:
تشير الأبحاث إلى أن التصفح المميت قد يؤثر على بنية الدماغ ووظائفه بصورة قد تؤدي إلى تقليل كثافة المنطقة الرمادية في الدماغ، وإليك بعض وظائفها:
– تؤدي دورًا أساسيًا فيما تدركه حواسنا الخمس للعالم من حولنا.
– بالإضافة إلى وجودها في القشرة الحركية للدماغ (The Motor Cortex)؛ وبالتالي تساعدنا في التحكم في العضلات وحركاتنا الإرادية كالمشي والكتابة.
– هذا مع كونها تشارك في التحكم بمشاعرنا من خلال مناطق مثل اللوزة الدماغية (Amygdala).
2- تواصل اجتماعي أكثر هشاشة:
من المفارقات العجيبة أن المواقع التي تُسمى بمواقع التواصل الاجتماعي تسببت في عجزنا عن التواصل الاجتماعي خارجها، ولا نعني فقط بسبب انشغالنا بها عن الواقع، بل يُضاف إلى ذلك ما أشارت إليه الأبحاث من ضعف قدرة الأشخاص الذين يقضون معظم أوقاتهم على تلك المواقع على قراءة تعبيرات الوجوه من امتعاض أو فرح أو سرور بسبب قلة خوضهم لمحادثات خارج فقاعات الرسائل.
3- قدرة أقل على التركيز:
لا أعتقد أنه يخفى على أحد من مستخدمي مواقع التواصل ضعف قدرته على التركيز فيما سواها، وفي بعض الأحيان عدم القدرة على تركيز على واحد منها فحسب؛ وبالتالي تنعكس قفزاته الأرنبية من تطبيق إلى آخر إلى حياته اليومية؛ فيقفز من نشاط إلى آخر بلا أي إنجاز يذكر في واحد منها، هذا إن كان يقفز من نشاط إلى آخر أصلًا لا من نشاط إلى هاتفه وهو ما يحدث غالبًا للأسف.
ما الحل؟
نسأل أنفسنا: لماذا نريد تقليل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؟ تدوين هذه الأهداف يمكن ألا يكون دافعًا قويًا للاستمرار في الحد من استخدامك فحسب، وإنما قد يقودك في النهاية إلى التوقف نهائيًا عن استعمالها خصوصًا إذا كنت تستعملها بلا هدف مفيد.
ومن الوسائل التي يمكنك أن تستعين بها على كبح جماح تصفحك المميت:
1- خصِّص وقتاً:
قم بتخصيص وقت محدد في اليوم لاستخدام وسائل التواصل (مثلاً 30 دقيقة يوميًا)، ومعظم تطبيقات التواصل أصبح فيها خاصية تحديد عدد معين من الدقائق يوميًا، ومن الأفضل كذلك ألا تقتصر على تحديد عدد معين من الدقائق فحسب، بل تخصص وقتًا معينًا من اليوم لهذا النشاط، كذلك كأن يكون بعد فراغك من أهم أنشطتك لليوم وبعيدًا عن وقتي النوم والاستيقاظ.
2- قم بإيقاف الإشعارات:
إيقاف الإشعارات يمكن أن يقلل من الإغراء للتحقق من هاتفك باستمرار، يمكنك إيقاف إشعارات تطبيقات معينة أو كتمها لفترات محددة.
3- إزالة التطبيقات من هاتفك:
إذا وجدت نفسك تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي كثيرًا، قد يكون من الأفضل حذف التطبيقات من هاتفك أو تسجيل الخروج منها لتقليل سرعة الوصول إليها.
4- قم بأمر مفيد:
النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، فاستغل وقتك في تعلم مهارات جديدة تفيدك في حياتك اليومية أو الوظيفية، وإن كنت ما تزال طالبًا فلا أفضل من هذا الوقت في بناء مهارات قد لا يتسع لها الوقت بعد تخرجك من الجامعة.