في ربيع منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وفي أحد المخيمات الربيعية لجمعية الإصلاح الاجتماعي والتي مر بها الآلاف من شباب الكويت، التقيت بشاب حديث السن ولعله كان في أوائل المرحلة الثانوية اسمه «حامد الياقوت»، وكنت في حينها أدير هذا المخيم الربيعي، وكان للتو حاضراً مع مجموعة من الشباب مخيماً ربيعاً لجمعية الإصلاح الاجتماعي يتربى فيه الشباب على المعاني الإسلامية الصادقة والرجولة والأخوة ويعيشون معاً في عمل جماعي يتنافسون فيه في إظهار مواقفهم وقدراتهم الفكرية والثقافية والبدنية.
وما شدني في شخصية هذا الشاب أنه شاب حديث السن ولكن بمواصفات رجل، ودائماً تكون صفات الرجولة في الصغر تعبر عن مستقبل مشوب بالتفوق والعطاء والتقدم، ومرت سنوات وسنوات، وفي عام 2009م كان هذا الشاب رجلاً يقود أكبر مؤسسة دعوية في الكويت وهي جمعية الإصلاح الاجتماعي التي ملأ نشاطها المجتمع الكويتي آفاقاً رحبة من العمل الاجتماعي والمجتمع الكويتي والعمل الخيري والدعوي، وكانت خير سفير للكويت في رحاب العمل الإسلامي والدعوي والخيري في العالم.
بصمة التصدي للقيادة والريادة
في عام 2009م كانت الظروف الداخلية والخارجية للعمل الإسلامي الحركي في الكويت تتجاذبه تحديات داخلية، في ما إذا كان العمل السياسي الحركي الذي أسسه المرابطون وشباب من جمعية الإصلاح الاجتماعي يؤثر بشكل مباشر على هدف العمل الدعوي؛ هو هدف جمعية الإصلاح الاجتماعي في المجتمع الكويتي، وهو أيضاً الغاية الرئيسة التي من أجلها تقدم المصلحون والعاملون ليقوموا بهذا الواجب.. ودار حوار بين الاتجاهات الفكرية والسياسية داخل هذا المجتمع الحركي الإسلامي، وكانت هذه العملية تحتاج إلى جهود تتسم بالاستيعاب والتفهم والإقناع، وكان حامد يضع بصمته في تحديد المسارات التي تحفظ للدعوة مجالها الحقيقي وغاياتها الرشيدة، وتدفع بالعمل السياسي والعمل الاجتماعي الدعوي إلى حيزهما الطبيعي ومجالها الخاص.
ويتصدى حامد في حينها لريادة العمل الدعوي والذي تورع عن القيام به قادة وشيوخ في الدعوة إما إمعاناً في التورع أو بسبب الانشغالات الخاصة أو باستكفاء الكبار وإعطاء فرصة لمن أكثر عطاءً وجهداً وتجرداً لقيادة العمل الدعوي المتمثل في جمعية الإصلاح الاجتماعي، وأصبحت جمعية الإصلاح الاجتماعي الوعاء الأخوي الأكبر لشباب الحركة الإسلامية، واستوعبت بين جناحيها كل نشاطات العمل الإسلامي بما يخدم المجتمع الكويتي.
بصمة القيادة الواثقة الآمنة
وفي السنوات الأخيرة، انشغلت الكويت بتطورات الخلافات بين مجلس الأمة والحكومة، وأثرت تلك الخلافات على الأوضاع العامة بشكل عام، وتدهورت الحالة السياسية للبلاد، وانسحبت القوى الاجتماعية والسياسية إلى مجالات من الصراع، وهذا بلا شك أثر على مسارات النشاطات وجمعيات المجتمع المدني، ومنها جمعية الإصلاح الاجتماعي، وقد واجهت الجمعية بقيادتها الجديدة وضعاً جديداً من حالة التأزيم والاصطفاف السياسي والاجتماعي، وهو ما بدا وكأن العمل الدعوي يواجه أزمة اجتماعية، وزادت حدة الأوضاع إلى مزيد من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي، فقد واجهت جمعية الإصلاح الاجتماعي تياراً معادياً للدين في مستويات مختلفة يريد تقليص الدور الديني والدعوي والخيري للجمعية، وكانت مهمة شاقة على إدارة جديدة يقودها حامد في تيار متلاطم من الأهواء والخلافات الاجتماعية والسياسية، واستطاع بفضل الله ثم بإخوانه في مجلس الإدارة أن يصمدوا أمام هجمة الاستقطاب والإقصاء، وقاد مسار الدعوة من خلال هذه الجمعية المباركة بهدوء وأمان، وأدى ذلك إلى إعادة جمعية الإصلاح الاجتماعي لموقعها الرائد لجمعية رائدة في العمل الاجتماعي الدعوي في الكويت، توجت بالاحتفال بمرور خمسين عاماً ورعاية من أمير البلاد إيماناً بدورها الرائد في خدمة المجتمع الكويتي.
لقد كانت لحامد بصمات كثيرة أهمها بصمته في الريادة وتحمل مسؤولية أمانة عمل إسلامي دعوي وقيادة جمعية إسلامية رائدة حين ضن الكبار والشيوخ في الدعوة عن تولي تلك المسؤولية والريادة.
إذن فالبصمة الثانية هي في النقلة الاجتماعية الكبيرة التي وضعت مسار الدعوة في إطارها الاجتماعي الحقيقي والمنفتح على المجتمع، وتأطير كل اللجان العاملة في هذا المجال المهم تحت سقف الجمعية الرائدة والتاريخية في الكويت.
والبصمة الثالثة هي في استيعاب حالة التدافع والإقصاء والحرب الإعلامية الظالمة ضد التيار الإسلامي الدعوي في الكويت، والتي شنتها قوى نافذة على مستويات إعلامية وسياسية قانونية جائرة يراد منها إقصاء وتهميش عمل جمعية الإصلاح الاجتماعي وتيارها الفكري المتجذر في تاريخ العمل الإسلامي في الكويت.
فقد استطاع «حامد» بقيادته الواثقة بتفويت فرصة الخصوم والتصدي لهذا التحدي بكل شفافية وشجاعة وتقليل تلك الآثار السلبية على العمل الدعوي في الكويت.
يمر عليّ الآن شريط طويل من المواقف والذكريات لـ«حامد» المستشار والأخ والقائد الرائد في مواقف عديدة لا يمكن إحصاؤها في هذا المقال.. ففي يوم 11 مارس 2015م كنت في زيارة لبريطانيا في مهمة عمل، وكنا على مائدة غداء مع أحد الإخوة، فقمت بالتقاط صورة تذكارية واستأذنت لإرسالها لأخينا الحبيب «حامد» وهو في الولايات المتحدة وتحت العلاج، وكان في آخر أيام مراحل علاجه، وفي حينها ظننت أن تلك الصورة ستدخل على قلبه السرور، بعدها بلحظات وإذ بالحبيب «حامد» يرسل لنا صورته على حقيقتها التي تركها المرض وآثار العلاج قد حولته إلى شكل آخر، ولكن كانت عيناه مملوءتين بالعزيمة والإصرار، وكان وجهه باسماً منشرحاً، مع كلماته التي تعبر عن محبته وإخلاصه.. جلسنا بعدها نتحدث أنا ومضيّفي عن صنعة الرجال التي ندرت في هذا الزمان، وكان حامد هو صلب حديثنا.
عندما تتتبع كلماته التي سطرها على حسابه في “تويتر” تلتقط أنت تلك الكلمات القليلة ذات المعنى العميق والذي أرد أن يرسخها في نفوس الشباب ومحبي الدعوة والناس من مقولات نظرية لتوضع في إطار عملي، ومما سطر:
تذكروا سنغيب يوماً
سيبقى الأثر حروفك صورك كتاباتك
ستكون في يوم ما شواهد
إما لك وإما عليك
فاختر لنفسك
نعم ستبقى كبيراً عند الناس وفي نفوس إخوانك يا «حامد»، وهذه شواهدك وبصماتك نشهد بها ويشهد عليها الدعاة المخلصون.
لن ينساك إخوانك وشيوخ الدعوة ومحبوك.. بصماتك في قلوبنا.. رحمك الله يا حامد.