إن قراءة التاريخ تضيف إلى عمر القارئين أعمار السابقين، أما الوعي بالتاريخ فإنه يوظف ثمرات هذه القراءة في تغيير الواقع واستشراف المستقبل؛ ولذلك استحال التقدم وانعدمت النهضة عند الذين لا يعون دروس وعظات التاريخ.
إن الوعي بالتاريخ من أبواب صناعة التاريخ، وقد كتبت مختلف الأمم التاريخ منهم من أكد الدقة، ومنهم على العرض الجذاب، وقد اختلط التاريخ أحياناً بالإضافات والأساطير والتحريف، وقلَّ استخراج العبر منه والقوانين التي تحكم التاريخ؛ مما أدى إلى تكرار نفس الأخطاء والممارسات، وغلب على صناعته الأشخاص ذوو العزم الشديد والمواهب الكارزمية، الذين اهتموا بالتجييش والحشد لعواطف الجماهير دون الاهتمام بالجانب الأخلاقي والإنساني في بنائهم.
وقد نشأ التاريخ الإسلامي استجابة لحاجات المجتمع، ويظهر أن المؤرخين المسلمين لم يعرفوا كتب التاريخ اليونانية والرومانية؛ لأن شيئاً منها لم ينقل إلى اللغة العربية، لكنهم كتبوا للمجتمع وليس للحكام، لكنه لم يخلُ من التأثر ببيئتهم ونزعتهم المذهبية وعقيدتهم السياسية، كما كانت كتابتهم ذات مسحة إسلامية، وقد داخلها الإسرائيليات، وقد كتب بالتوثيق باليوم والسنة والشهر؛ مما مدحهم به مرجليوث.
كما كان بعض الخلفاء كمعاوية والمنصور يستمع إلى التاريخ ويتفاعل مع أحداثه، ويعد ابن الأثير متميزاً في كشف السوابق الطبيعية للأحداث ونتائجها، لكنه كغيره لم يتعرف على تطور الأفكار العامة التي تفسر التاريخ ويتعرف على التغيرات الاجتماعية الأعمق التي تظهر الأسباب الظاهرة المباشرة نتيجة له أو تحدث بسببه، لكن ابن خلدون سنة 1332 – 1406م لم يسبقه أحد في أي زمان أو مكان حتى ظهور فيكو بعد 300 سنة، وأفلاطون، وأرسطو، وأوغسطين ليسوا نظراء له، فقد حاول أن يكتشف مبادئ التقدم الإنساني والثقافي من التاريخ.
ومن المعاصرين كتب هاشم الملاح عن فلسفة التاريخ، كما كتب مظهر الدين صديقي الباكستاني عن تفسير التاريخ إسلامياً، وكتب أبو الحسن الندوي “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”؛ موجزاً لتاريخ العالم من منظور أخلاقي وإسلامي، وكتب د. عماد الدين خليل عن “التفسير الإسلامي للتاريخ”، جمع فيه نقد التفسير المادي للتاريخ وعرض التفسير الشامل له، وتعجب أن تكون بعض الممارسات الفردية التاريخية من صنع المادة من إقدام بعض القادة على الانتحار، أو إحراق مدن مثل روما، وغير ذلك، ومنه نظرية توينبي في التحدي والاستجابة، وتطرق إلى دور الجوانب المعنوية والرمزية والبطولية في صناعة التاريخ مستفيداً من القرآن وسننه ومعادلاته، وقد بين د. عماد أن المنظور القرآني للتاريخ يستهدف البحث عن الجوهر والمغزى من التاريخ، وهو حساب موجه لذوي البصيرة للإفادة منه في واقع حياتهم والتخطيط لمستقبلهم، وليس لذوي المصالح والأهواء، كما كتب مسعود محمد عن “التفسير البشري للتاريخ”؛ منتقداً التفسير المادي للتاريخ.
إن تغيير الأمم والشعوب إلى الأفضل لا يكون فقط بالموعظة فقط، أو الطلب من الناس تغيير طبائعهم وآلياتهم النفسية وغرائزهم الفسيولوجية دون وضع إستراتيجيات فكرية وثقافية واجتماعية للتغيير، ومشاريع مرحلية وخطط مدروسة لتوجيه الغرائز والحاجات وجهة إنسانية وأخلاقية وحضارية، سميت بالسنن أو القوانين، أشار إلى ذلك كتاب مثل مالك بن نبي، وجودت سعيد، وعلي الوردي.
لا بد أن يصاحب عملنا في مجال صناعة التاريخ وضبط صيرورة الحركة التاريخية بشكل منهجي تغييرنا لأنفسنا وعدم خلط الحقائق بالانفعالات والزيادة والنقصان عليها، وضبط مصالحنا في إطار المصلحة العامة.
إن أفضل فترات التاريخ هي التي يتوازن فيها الإنسان ومؤسساته بين العقل والضمير وحاجات الجسد والحس والمادة والتطور المعرفي والإبداع العلمي، بين مصلحة الفرد وبين متطلبات الإنسانية في حدودها رغم اختلاف الإثنيات والمذاهب، وأنى يتجرد الناس من العصبية ويحكموا المنطق ولغة الحوار والقواسم المشتركة وترك الخلافات الممزقة للحمة الإنسانية، وبين مصالح الوطن والقوم والوشائج الإقليمية التي تشكل امتداداً للهوية الثقافية المشتركة.
إن التاريخ حركة صاعدة إلى أمام، وهو غائي له هدف وإن كان يخفى على البعض من فلاسفة التاريخ، ودليل ذلك الإمكانات الهائلة للتقدم نحو المستقبل في الدماغ البشري، وفي موارد الكون والطبيعة، لذا فالنظرة التشاؤمية للتاريخ لا مكان لها في عالم يحرص على البقاء والتقدم، وإن كانت القيم تختلف بين حقبة تاريخية وأخرى وحضارة وغيرها، لذا حين نجد ظواهر سلبية علينا ألا نيأس، بل نبحث عن السبب الكامن ونحلل الأحداث بموضوعية لنعثر عن الحل حتى لا تتطور الأمور نحو الأسوأ.
إن تاريخ العالم تختلف تجلياته حسب الميزات الأيكولوجية كالبيئة والجغرافية والمناخ؛ مما يشكل أحياناً وعياً يميل نحو التميز مع وعي الآخرين.
رغم الأحداث الجسام الذي مر بها ويمر عالمنا فلا دليل علمياً أو دينياً على أن نهاية العالم تحسب بالسنوات والقرون، ويحكم فيها بالتنبؤات، لذا لا بد من المثابرة والتفكير في إشكاليات عصرنا ومواجهتها بمفاهيم عقلانية وقيم إيمانية وتحليلات عصرية مرنة حسب قواعد المصالح المعتبرة أصولياً لرفد حركة التاريخ الصاعدة إلى أمام رغم كل المفارقات ونقاط الحيرة.
إن بعض الكتاب ينظر إلى تاريخ العالم وتاريخنا بالذات نظرة تشاؤمية أو دونية، أو يشكك في حضارية صانعيه لما ورد في وثائقه من تصرفات غير مبررة تدل على مواجهة الواقع بشكل سطحي أو عنيف أو غير مستوعب للمكونات الثقافية أو المذهبية أو الدينية التي كونت مجتمعات ذلك التاريخ، وما يقال في ذلك: إن تاريخ الإنسان شريط يمتد عبر آلاف السنين وقد ساهمت في صنع تضاريسه الواقعية عوامل شتى من اللا دقة والتحيز والنفور والخلافات الفكرية والسياسية والفلسفية، وما زال استنساخ تلك الخلافات يوقع المزيد من الخلخلة والاضطراب في البنية المجتمعية، ويؤخر المسيرة الحضارية لإنسان العصر، فلا بد من قراءة التاريخ بمعايير موضوعية والتأشير على نقاط قوته وضعفه، والتفكير في حلول جديدة لقضايا العصر بعيداً عن التقوقع والتعصب والحزازات والمصالح الضيقة.
ولقد انتقد د. يوسف القرضاوي، المودودي في وصم تاريخنا بالجاهلية، ولكل وجهة هو موليها إذ لم تخل بعض السير من ضعف أمام مغريات الحياة لأساب شتى تتعلق بصميم بنية الإنسان وضعفه العريق وتزاحم الأولويات عليه مع التعرض لآثار الحضارات الأخرى، كما يجب أن نعلم أنه ليس كل ما كتب في التاريخ صحيح، وأن تكبير الهفوات يضر بإرادة الأمة في تجاوز سلبيات التاريخ، كما أشار الطبري إلى ذلك في كتابه.
لا بد من نبذ الخصومات والروح الطائفية وتأصيل الأخوة، وترك المذاهب للحوار العقلاني وتغليب بعد النظر وسعة الأفق، وتحويل النزعات الأنانية نحو أهداف تتوازن فيها المصالح، وعقلنة تصريف الشهوات في مسارب شرعية للقضاء على الإباحية.
لا بد من ملاحظة أمور مهمة في دراسة التاريخ، منها أن مناهج كتابة التاريخ لم تسلم من النقص والزيادة ونقل العجائب والمبالغات، وتأثير ذلك في صناعة الحدث التاريخي وكتابة التاريخ، فلا بد من إيلاء أهمية للتحقيق التاريخي وكذلك للمسألة الحضارية وكيفية احترام السنن، إذ يبدو التاريخ كشريط من المدافعات والمنافسات والهدم والبناء، ويكاد يكون دور المجتمع والنخبة والقوانين الصارمة فيها غائباً أو مغيباً، فشخص واحد مثل ابن سبأ تعزى إليه أدوار هائلة تغيرت به الخارطة، هذا لا يعني إهمال دور الفرد خاصة في العصور السالفة مثل دور عمر بن عبدالعزيز.
ولقد أشار ابن خلدون إلى أن التاريخ لا يزيد على أخبار الأيام والدول مع النظر والتحقيق وتعليل الكائنات ومبادئها وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها، وأنه اختلط بدسائس من الباطل وزخرف من الروايات المضعفة.. كذلك أشار الطبري أنه نقل كثيراً من الروايات دون أن يستطيع التأكد من صحتها.
التاريخ يعيد نفسه، يجب ألا يؤخذ على علاته ويؤدي إلى التشاؤم ومن ثم رؤية الحاضر بعدسة الماضي التي قد لا تكون مجمعة بل مفرقة، واستنساخ نفس النظرات والمواقف وعدم تمييز العوامل الذاتية عن العوامل الموضوعية والإنسانية، أو تغليب الجوانب العسكرية والسياسية والمذهبية والقراءات السطحية للعقائد على الحلول الإبداعية والذكية والشاملة لقضايا المجتمع.
مراعاة سُنة التدرج في البناء الحضاري والتاريخي ضرورة حاسمة؛ إذ بدون ذلك يكون الاستعجال وحرق المراحل واجتياح قدرة الناس على التطور والتحمل للتغييرات الاجتماعية والثقافية، وذلك ما يسمى في علوم القرآن بفقه التنزيل.
يؤكد كثير من الكتاب أن الأفكار والأديان تقبل بالإقناع وبرؤية الجوانب الحضارية للفكرة والأبعاد الأخلاقية لمن يدعوهم إليها، وبقدرتهم على تأسيس المؤسسات المختلفة لتفعيل تلك الأفكار في صور واقعية من الرحمة والشورى والعدل، وتقدير جوانب الضعف في حياة الإنسان التي قد تجعله ينهار في لحظة ثم يعاود الصعود، كما أن الوسائل لنشر الأفكار لا يتحتم أن تستنسخ من الماضي بكل سقوفه الثقافية، فالوسائل تكتيك متغير وليس إستراتيجية نصية.
يؤكد جوستاف لوبون في كتابه فلسفة التاريخ على أن العوامل الدينية والعاطفية لها دور مؤثر في صناعة التاريخ، كما يبين أنه لا بد من ملاحظة نفسية كل أمة لإحداث التحولات الاجتماعية، وأن التغييرات العنيفة لا تستطيع لمس حالة الشعوب الماضية فلا بد من فلسفة تربط بين الماضي والحاضر، وملاءمة مقتضيات الزمن الجديدة مع تحولات العالم المتصلة.
إن التاريخ ينطوي على علل عامة ثم على ما لا يحصى من العلل الصغيرة الاستثنائية من غير أن تنشأ منها، فلا بد من البحث عن كل ذلك لصناعة تاريخ أفضل للأجيال الواعدة.
اللذة والألم أصل جميع التلقينات التي يتكون منها العالم الحي، وتعلم صناعة التاريخ يقوم على توجيه هذين الشعورين، وتحمل ألم ما أو خسارة لذة ما عاجلة من أجل نتيجة بعيدة.
وهناك رؤى نراها محتمة للتكامل والشهود الحضاري منها؛ فالحضارات كما يرى توينبي ليس سبب نشوئها بسيطاً بل هو مركب وتعددي، وليس وحدة مستقلة بل علاقات مشتركة.