“ربما كان في التاريخ خبرات وعِبَر، وتجارب وآيات، وشواهد وبراهين، تثبت مثل هذه الحقائق أو تعمق من دلالاتها”.. هذا تعبير عن فكرة كان يرددها أستاذنا د. حامد عبدالله ربيع، يرحمه الله تعالى؛ فكرة ورؤية للتاريخ كمختبر للأفكار والنظريات، وكأرضية صالحة لبناء “نماذج” تعمل عمل النظريات في إحسان الوصف والتفسير والتأويل والتحليل والاستشراف: مقارنة ومقاربة وتسديداً.
وضمن هذه الرؤية الواجب تفعيلها يمكن قراءة المشروع الأكبر الراهن “الشرق الأوسط الكبير” وما يرتبط به من مفاهيم متصادمة أو ما يمكن العنونة له بـ”صِدام المفاهيم”، وذلك على النحو الذي قدم مثله الرافعي في المفاهيم العدوة، والكلمات المقاوِمة.
إن الفكرة الرئيسة التي يمكن أن نستلهمها من عبرة التاريخ ونماذجه الواضحة وضوح الشمس في ضحاها تتمثل في أن الاحتكاك الإسلامي مع الغرب كانت له سمات ودلالات مهمة تنبع من الطابع اللازم والملازم لأصول هذين الطرفين الحضاريين؛ تنبع من المركَّب الأصيل المحفّز لبناء كل منهما ابتداءً، والموجِّه لتطور كل منهما ولمساره انتهاءً، والمؤثر في تفاعلات هذين الكيانين عبر تاريخ العلاقة بينهما وعلى امتداده زماناً ومكاناً، هذه السمات والدلالات يمكن استخلاصها من المرور على مراحل أو حالات ثلاث سابقة، مثلت لحظات فارقة معبّرة، بالإضافة إلى المرحلة الراهنة الرابعة:
الحالة الأولى: يمكن تسميتها “الحالة الأندلسية”:
وهي حالة عجيبة؛ إذ برزت فيها إرهاصات ظهور “الدولة – القومية” في عالم المسلمين، وإن كان باسمٍ مختلف هو “ملوك الطوائف” أو “طوائف الملوك”، تلك الدويلات التي كرست حالة التشرذم، كاشفةً عن القابلية الأساسية لتحقق الاستئصال الذي تم بعد ذلك للوجود الإسلامي في الأندلس وما تبعه من وحشيات تنصير إجباري ومحاكم تفتيش.
لقد قَدِم المسلمون إلى هذه البقاع ومعهم مشروع فكري (فكرة) فاستطال وجودهم، إلى أن ذبلت الفكرة وانقشع شذاها، ثم جاءهم الغرب بفكرته “قوية”، وإن لم تكن ذات قيمة، فكان لابد أن يَستأصل الشأفة؛ هكذا كان دخول المسلمين لشبه جزيرة أيبيريا، وهكذا كان دخول الغرب بعدهم أو حلوله، كل كان يصدر أمامه مشروعاً حضارياً حملته “الفكرة” أكثر مما حملته القوة العسكرية.
الحالة الثانية: ويمكن تسميتها “الحالة الصليبية”:
وهي اللحظة الثانية الكبرى للاحتكاك مع الغرب، كان التنازع فيها في جوهره – على خلاف ظاهره – فكرياً رمزياً؛ تنازعاً على رمز “بيت المقدس”.
في هذه الحالة أيضاً كانت دويلات “شرقنا” الإسلامي تمثل تكراراً لنموذج طوائف “غربنا” الأندلسي، وكانت طبائع هذه “الدول – القومية” تفرز ذات ميولها وقابلياتها للتشرذم والانفصال، لكن مع تميز قد يبدو ضئيل القيمة؛ هو الاعتراف الأسمى والرمزي بمظلة الأمة والخلافة، لكن يلاحظ أن هذا الاعتراف وهذا الاستظلال – رغم رمزيته وشكليته – فربما هو الذي ولّد – سراعاً – خمائر مقاومة وتجميع؛ فكان أن انبلج النورويون وصلاح الدين والأيوبيون؛ مما أحدث حالة من المد والجزر لم تزل تتدافع فيها قابليات الوهن المفرّقة مع خمائر عزة مجمِّعة، فيسترد المسلمون بيت المقدس (صلاح الدين وأخوه العادل)، ثم تؤخذ منهم بصورة عجيبة زمن الكامل أبي بكر ابن العادل، إلى أن يجتمع العدوّان: من الشرق (المغول) ومن الغرب (الصليبيون)، وتستمر القابليات تعالجهما وتدافعهما، هذه التجربة والتي قبلها أفرزتا مقولات مهمة، منها:
– أن الغزو حين يكون عسكرياً بحتاً يسهل التغلب عليه، وحين يصحبه فكر ومشروع فكري – ولو كان رمزياً – فإنه يعمّر زمناً ويستطيل (حتى يصل إلى قرنين في الحالة الصليبية، بينما كان ما بين سقوط بغداد باجتياح مغولي عسكري بجحافل مادية وبين المواجهة المنتصرة في عين جالوت عامان فقط أو يكاد: 1258م/ 656هـ – 1260م/ 658هـ)، إن المشروع الفكري يطيل أَمَدَ الفعل الاستعماري وإن كان باطلاً.
– أن أمراء التغلب (ساعتها) الذين تغلبوا بقوتهم على بعض مكامن السلطة، رغم أنه بتغلبهم واستيلائهم برزت الدويلات والإمارات الممزقة؛ إلا أنهم أيضاً استطاعوا أن يؤسِّسوا معادلات صعودهم واستيلائهم على السلطة (بشكل غير شرعي طبعاً على حساب المركز: الخلافة) في توازن مع استخدام تلك القوة – من جانب آخر – للقيام بوظيفة “حماية الأمة”.
لقد كانت قوتهم هذه نفسها سلاحاً ذا حدّين؛ فهي التي مكنتهم – من ناحيةٍ – من حماية الثغور وحراسة حدود الأمة، وخاضوا بها الحروب ضد أعداء الأمة وخصومها، لكن – من ناحية أخرى – فإن تشرذم هذه القوة وتسرب عناصر الضعف لها تباعاً كان يصبُّ في ضعف الكيان العام؛ الأمر الذي استثمره العدوان الصليبي.
وهذا الأمر – للأسف – لا تقوم به اليوم دول – قومية صناعتها التجزئة واحتراف التبعية؛ تَصْدَع بالسيادة حيث يجب ألا تصدع بها، وتتخلى عنها حيث تجب تقويتها والاحتماء بها قولاً وفعلاً.
إن “السيادة” في معادلاتها الواجبة ليست إلا “الإرادة” و”العُدّة” في واصلةٍ بينهما هي “الإدارة”: إدارة الكيان، وإدارة العلاقات، وإدارة التماسك، وإدارة الإستراتيجيات والسياسات، وإدارة المواجهة للتحديات والممانعة على الخضوع والاستسلام والمقاومة للخصوم والأعداء، ليس هذا إلا صياغة لمفهوم “السيادة” ضمن معادلة الإرادة والمكانة والتمكين، وهذه ليست صياغات بلاغية لفظية؛ بل هي عمل تأسيسي وتراكمي مستمر يشكل البنية التحتية والقومية معاً لمضمون “السيادة”.
إن عالم المسلمين لم يعتبر درس التاريخ؛ فظل هؤلاء المتغلِّبون يمثلون نموذج “ملوك وحكام الطوائف”، ويحملون كل سيئات النموذج، ولم يقدموا حتى ما قدمه أمراء التغلب في تاريخنا حينما اضطلعوا ونهضوا بحماية الأمة أربطةً وثغوراً.
الحالة الثالثة: “الحالة العثمانية”:
وشهدت مع إرهاصات ضعفها بروز دولتنا – القومية الحديثة، وذلك أثناء الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بأقصى ما كان يمكن أن يصل إليه الاحتكاك بالغرب، في صورة “الاستعمار” والاحتلال والحلول بعقر دار الإسلام، وتنفيذ المشروع الاستلابي بين يدي الآخر وعلى عينه.
لقد طرح الغرب مشروعه واضحاً إبان هذه المرحلة متمثلاً في “المسألة الشرقية” و”عبء الرجل الأبيض”، و”مسألة الرجل المريض”، فكيف واجهنا هذا المشروع؟ إنها المواجهة المرتدة على أعقابها، المسترشدة من التاريخ فقط بعروبة الجاهلية أو المكتفية منه فقط بجاهلية العرب: قومية الكلية البروتستانتية السورية، التي انتهت بالبعث “رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثانِ”، مروراً بثورة الشريف الكبرى.
إن الثورة العربية الكبرى لم تكن تمثل إلا الغفلة العربية الكبرى، التي أفرزت قواعد “الشرق الأوسط” الفسيفسائي وأسسه؛ وقائع الغفلة العربية الكبرى بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، تلك الحرب التي بدا للمنتصرين فيها “توظيف المنطقة ضمن عناصر صراعاتها”، والتي كانت تعني ضمن ما تعني عملية الاستفراد بالكيان العربي، ونقل الصراعات الأوربية / الأوروبية إلى تقسيم “مناطق نفوذ” على أرض العالم العربي والإسلامي، قَضَمَ منها الاستعمار ما قَضَمَ، وتنافس المتنافسون في الحصول على أكبر نصيب.
المصدر: موقع “مصر العربية”.