رغم مرور أعوام على مؤتمر الأمم المتحدة التاريخي حول البيئة والتنمية في ريو دي جانيرو، ما زال العالم عاجزاً عن تحقيق هدفه الرئيس “اقتصاد عالمي مستديم بيئياً”.
فمنذ قمَّة الأرض عام 1992م ازداد عدد سكان الأرض بما يقرب من 450 مليوناً، وتصاعدت الإطلاقات السنوية من غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو الغاز الرئيس من بين غازات البيوت الزجاجية إلى مستويات عالية جديدة، مما يغيِّر التركيبة ذاتها الخاصة بالجو وميزان حرارة الأرض.
يقول كرستوفر فلافن: من أجل المحافظة على التنوُّع البيولوجي على المدى الطويل، نحن بحاجة إلى إبطاء النمو في أعداد البشر، وتقليل الفقر في دول الجنوب، والاستهلاك المفرِط في الشمال، وهما اللذان يدفعان الناس إلى قطع الأشجار عن وجه الأرض.
ففي بداية القرن الماضي، كان سكان العالم 1.6 مليار نسمة فقط، وبحلول نهايته كان عددهم أكثر من 6 مليارات؛ أي: بزيادة قدرها 4.4 مليار أو 300%.
وتنامِي أعداد السكان قوَّة دافعة وراء الكثير من المشكلات البيئية والاجتماعية، ومع تزايد البشر الآن بسرعة قياسية قدرها 88 مليون سنوياً تقريباً، فإن إبطاء سرعة هذا النمو البشري أصبح أولويَّة ملحَّة.
على أنه لا يمكن النظر في موضوع النموِّ السكاني بصورة صحيحة دون الإشارة إلى مستويات استهلاك الموارد في كلِّ دولة على حِدَة.
فهناك ما يَقرُب من 1.5 مليار من الناس في العالم ينتمون إلى طبقة المستهلكين؛ وهم الذين يقودون سياراتهم، ويمتلكون الثلاجات وأجهزة التلفاز، ويتسوَّقون في الأسواق المركزية الكبرى، ويستهلكون الجانب الأكبر من الوقود الأحفوري، والمعادن ومنتجات الأخشاب والحبوب في العالم.
فالمولود الجديد في الولايات المتحدة – على سبيل المثال – يحتاج إلى ضِعفَي ما يطلبه مثلاه في البرازيل أو إندونيسيا من الحبوب، وعشرة أضعاف ذلك من النفط، ويسبِّب هذا المولود تلوُّثاً أكثر بكثير.
وبعملية حسابية يسيرة يظهر أن الزيادة السنوية في عدد سكَّان الولايات المتحدة البالغة 3 ملايين نسمة أو أكثر، تضع من الضغوط على موارد العالم ما يضعه 17 مليوناً من الناس الذي يضافون إلى عدد سكان الهند كل عام.
وما لم تقم الدول الصناعية بتطوير أساليب حياتية أقل كثافة في استخدام الموارد والتقنيات الأقل تلوثاً، سيكون من الصعب تطوير اقتصاد عالمي مستديم؛ سواء استقرَّ عدد سكَّان العالم في خاتمة المطاف عند 12 مليار شخص، أو عشرة، أو حتى ثمانية.
وقد خلصت الدراسات التفصيلية التي أجراها معهد “وبرتال” في ألمانيا إلى أنه عند استخدام المواد بصورة أكثر إنتاجية، سيكون من الممكن في العقود القادمة تخفيض مستويات الطاقة واستهلاك المواد في الدول الصناعية بنسبة واحد إلى أربعة، في الوقت الذي سيجري فيه تحسين مستوى المعيشة بشكلٍ فعلي، ومع ازدياد الطلب الاستهلاكي قامت الكثير من الأعمال التجارية بإعادة صياغة عمليات تصنيعها وتطوير منتجات مستدامة بيئياً.
فقد ذكر بول هوكن، المدير التنفيذي التجاري، في كتابه “علم التبيُّؤ التجاري”، لقد وصلنا إلى نقطة تحوُّل لا تبعث على الاستقرار، نقطة مثقلة بالاحتمالات في مدنيَّتنا الصناعية؛ إذ على أرباب الأعمال التجارية إمَّا أن يأخذوا على أنفسهم عهداً بإصلاح التجارة، أو أن يسيروا بالمجتمع إلى متعهِّد دفن الموتى!
وعندما كانت البشرية تحاول استعادة عافيتها بعد صدمة رؤية صور الأرض من الفضاء الخارجي في عام 1960م، تنبَّأ كينيث بولدنغ، العالِم الاقتصادي، أن نفاذ البصيرة الذي أوحتْ به تلك اللحظة سيؤثِّر نهاية الأمر في الممارسات ذاتها التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة.
فاقتصاد الكاوبوي كان يحدِّد معالم الحضارة الإنسانية بصورة متزايدة، وهو الاقتصاد الذي يستخدم الموارد الطبيعية كما لو كانت باقية دون حدود، هذا الاقتصاد كان يقف على طرف نقيض للحدود البيئية.
وسيأتي اليوم الذي سيحتاج هذا الاقتصاد فيه إلى التحوُّل إلى اقتصاد رجل الفضاء الذي يحترم – بصورة من الصور كما يفعل رواد الفضاء – الحدود البيئية الصارمة، ويحافظ على الموارد، ويُعِيد تدوير النفايات.
وكلَّما تأخَّرت المجتمعات في الشروع في هذا التحول – كما يرى بولدنغ – فإن هناك صعوبة في قدرتها على الحفاظ على مقدراتها الطبيعية.
ورغم أن الدول الصناعية وصلت إلى ما يُشبِه الطريق المسدود على مسار الاقتصاد والقائم على أسلوب الكاوبوي، فإن الدول الأكثر فقراً سارت في أعقابها وعلى منوالها بكلِّ أسف، وهكذا – كما هي الحال في الدول الصناعية – لم يفعل الدعم المقدَّم للموارد الطبيعية في الدول النامية سوى القليل للتصدِّي للمشكلات الاقتصادية المعاصرة، ولما كان دعم الحكومات للموارد الطبيعية نادراً ما كان ناجحاً، ولما كان هذا الدعم قد زاد في الغالب من سوء أوضاع أفقر الفقراء، فإنه بحاجة ليصبح أقلَّ ممَّا هو عليه.
ختاماً أقول:
إن على الدول الفقيرة أن تختار بين اقتصاد الكاوبوي واقتصاد رجل الفضاء، وعليها أن تتحمَّل النتائج والتَّبِعات، أو أن تجني الثمار والفوائد، وما زال الوقت مناسباً والبدائل قائمة، والاختيارات معروضة أمام الجميع.