كانت المباراة الثالثة أطول المباريات إلى الآن، كما توقعت من قبل، كانت المباراة قوية ومتقاربة، قاتل فيها سيدول لآخر لحظة وقدّم مستوى رائعاً، كما قال المحللون وكما صرّح ديميس، المدير التنفيذي لشركة DeepMind، في المؤتمر الصحفي، ولكنه كان يستغرق الكثير من الوقت مما عرّضه للضغط ولقصور في إتمام الحسابات اللازمة للتفوّق خاصة في مباريات عالية المستوى مثل الحالة التي بين أيدينا، وأعتقد أن فوز الآلة أمر طبيعي لأنها يمكنها أن تقوم بعشرات الآلاف من العمليّات الحسابية في الثانية الواحدة، كما أشار ديميس، ومع ذلك استطاع سيدول أن يكون منافساً قوياً بذهنه وإدراكه، على حد قوله.
بتمكن الآلة من الفوز في ثلاث مباريات تكون هي الفائز بصورة نهائية، ولكن سيتم خوض المباريتين الرابعة والخامسة، وأعتقد أن هذا مفيد لكلا الطرفين.
بالنسبة للأشخاص الذين يُبالغون بخوفهم من الذكاء الاصطناعي، أدعوكم أن تتعلموا مبادئ هذا العلم لكي يزول خوفكم، التقدم التقني موجود منذ مئات السنين، إن لم يكن قبل ذلك، فلقد مررنا بالثورة الصناعيّة والميكانيكية مع اختراع المحرّكات، لا أعتقد أننا سنجد إنساناً يمكنه أن يتغلب على قدرة محرّك بآلاف الأحصنة، أليس كذلك؟ بعد ذلك أتت ثورة الإلكترونيّات والاتصالات، فكان الحاسب الذي يمكنه حساب الآلاف بل الملايين من المهام والعمليات الرياضية وغيرها، ولا أعتقد أنه يمكنك أن تجد إنساناً يمكن أن يُنافس الحاسوب في هذه المهام من جهة السرعة والدّقة في الحساب، أليس كذلك؟ ومع تقدّم علم الخوارزميّات واستخدام الإحصاءات لتشكيل علم البيانات الذي هو أساسي في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، استطاع الإنسان أن يصل لحلول ذات جودة عالية لمسائل بالغة في التعقيد عن طريق التعلّم، لكنها في النهاية ليست إلا مسائل حسابية ولا أعتقد أننا نتوقع أن نجد إنساناً يتفوّق على هذه الخوارزميات؛ لأنها بالأساس فرع عن ثورة الحاسوب الذي صُمّم لهذا الغرض.
واللعبة التي بين أيدينا تعتمد على الحساب أكثر من اعتمادها على الإدراك، ولذلك فإن النتيجة متوقعة وطبيعيّة جداً، ولا داعي للخوف أبداً، كما أننا الآن بصدد ثورة “النانو”، ويجب أن تعلم أننا سنتوصل من خلالها لتصميم وصنع أشياءً قد تستطيع أن تفوق الإنسان في المهام التي صممت لأجلها كما حدث مع الثورات الأخرى، لذلك فهو امتداد طبيعي وسيتكرر كلما أتينا بثورة تقنيّة جديدة.
ولقد أعجبني أدب لي سيدول بما يتعلّق بهذه المسألة حينما ذكر أحد الصحفيين في المؤتمر بعد المباراة أن الخوارزميّة قد تغلبت على الإنسانية، فقال له: “لا تقل ذلك، بل قل: لقد تغلّبت على لي سيدول”.
الإنسان لم يُخلق ليكون مجرد آلة حسابية، أو عضلة قويّة أو جسم سريع مرن، فهناك حيوانات أقوى وأسرع منه، سر الإنسان هو أنه خلق متوازن من جهة التفكير والتعلم والمرونة والمشاعر والإدراك والتعليل والمنطق والكفاءة العالية من جهة الطاقة، وغيرها من المواصفات الكثيرة والمعقدة التي يصعب حصرها أو حتى فهمها إلى الآن، هذا هو السر الذي يجب أن تضعه نصب عينيك، “إنه التوازن” بين العديد من الأبعاد فائقة التعقّد مما يجعل الإنسان كائناً معقّداً من عدة نواحٍ، منها الحيويّة والإدراك والتأقلم والتحرك وما إلى ذلك.
ومن نعم الله على عبده أن جعله متوازناً في القدرات والمزايا التي وهبها له، فهو أسمى من أن يكون شبيه بآلة حسابية أو مكنة قويّة يتم توظيفها في حمل الأوزان الثقيلة، إنما هو آية من آيات الله كما جاء في القرآن.
وعليك أن تعلم أساساً أنه إلى الآن لا يمكن تعريف الذكاء بصورة دقيقة، والأهم من قضية التوازن، يجب ألا تنسى أن الهدف الأساسي من خلق الإنسان هو العبادة، لا اللعب ولا الحساب ولا القوة العضليّة وهذا ما أسمّيه “السر الأكبر” الذي يقودنا إلى مصيرنا في الدنيا والآخرة، ولعلّ إحدى فوائد هذه الأحداث أنها تجعلك تتفكّر في نفسك وفي الحكمة من خلق الإنسان على صورته التي أرادها الله له.
وكغيرها من التقنيات الأخرى، فإن هذه الخوارزميات قد تستخدم في قتل الإنسان أو إنقاذ حياته، كما أن المبادئ والتقنيّات الفيزيائية التي تُستخدم في الأسلحة قد تجدها في الأجهزة الطبية، لذلك مهما كانت التقنيّة التي تم اكتشافها، فإن التطبيق هو الذي يحدد نفعها للبشريّة من عدمه، ولا شك أننا سنجد دائماً، كما هي الحال على مر التاريخ، التطبيقات المفيدة والأخرى المُضرّة أو القاتلة للبشريّة، فإن السكين نفسه قد يُستخدم للقتل أو لاستئصال ورم سرطاني!
من اللافت للنظر هذه المرة، حضور سيرغي براين، أحد مؤسسي شركة “جوجل”، في معظم الأحيان عندما يحضر المديرون في النهاية يكون هدفهم خطف الأضواء، لذلك لم يروقني حضوره في المؤتمر الصحفي بعد المباراة الثالثة، خاصةً أنه لم يضف أي شيء إلى المؤتمر الصحفي من جهة المضمون، غير أنه ذكر حبّه لهذه اللعبة ثم قام بتقديم ديمسس وسيدول للتعليق على المباراة!