تركيا بلد نهضوي، صنع منظومة عمل حضاري، أساسها قيمة العدل الذي هو جماع كل خير، وأساس كل فضيلة، وعلى قاعدة الحرية المسؤولة، التي يكون عمادها إنسانية الإنسان، واحترام حقوقه وإرادته وهويته، حتى كانت التجربة التركية التي محورها ما ذكرنا.
وقد قطع البلد شوطاً لا يستهان به في هذا الشأن، وصار محل تقدير واحترام كثير من المراقبين، الذين درسوا التجربة، بأبعادها الحاضرة، ونتائجها المستقبلية، ومآلاتها القادمة.
من هذا المنطلق العام، تشكلت مفردات العمل النهضوي، الذي يرسخ هذه المفاهيم بصورة عمل، وقطعت التجربة التركية شوطاً كبيراً في هذا الاتجاه، ففي ظل العدل والحرية المسؤولة، تكون مقاطع الإنتاج رفيعة المستوى، وعلى الصعد كافة، ويذكر هنا تخصيصاً جانب التنمية الشاملة الذي قفزت فيه تركيا قفزات مذهلة.
ومن لازم معاني تحقيق العدل في الحياة، ألا تنكفئ تركيا على ذاتها، ولا تلتفت إلا إلى نفسها، فيكون الخلل، بل ينبغي أن تكرس هذا المعنى بلغة عامة، وسياسة متكاملة، وهنا يكون محك المصداقية، فلا يصح أن يلتفت المرء إلى نفسه، وعلى الدنيا السلام، فهذه أنانية سياسية نأت تركيا بنفسها عنها، ورأت أن قيمة العدل والحرية إذا لم تكن شاملة؛ فهو خلل بنذر بخلل، ولذا مما تعيب تركيا على آخرين في إطار المنظمات والمؤسسات والدول المحلية والدولية، أنها تكيل بعدة مكاييل، ولا تنظر إلى الناس على أنهم عينان في وجه، وهذه إحدى إشكاليات التركيبة السياسية العامة في دنيا اليوم، وهذه القضية مصدر من مصادر التشوه الحاصل في كثير من تقسيمات الأحداث التي تقع على وجه هذه البسيطة.
من هذا المبدأ الأصيل تعاطت تركيا مع أحداث العالم، لذا كان موقفها من فلسطين والقدس ونصرة أهلها، وكانت تلك المواقف المشرفة من وقفات الخير، وما أسطول الحرية، وتلك الوقفة العظيمة في دافوس، إلى كثير من تفاصيل التأييد، إلا صورة من هذه الصور، وهكذا عندما نتنقل إلى مواقع أخرى وبلدان ثانية، لنجد الموقف القوي في مصر واليمن والعراق وبورما والصومال، وكثير من بقاع الأرض، فهذا منهج عمل، له كثير من مجالات المساندة في ثنايا عمله.
ومن هذه البلاد التي وقفت تركيا موقفاً رائداً، سورية وثورة شعب سورية، وأستميح القارئ الكريم، بالتركيز على هذا الجانب، من باب التخصص، لأني على اطلاع على تفاصيله.
والقضية خلاصتها أن نظام الجريمة والبغي في سورية، الذي قابل الشعب السوري (والثورة ثورة شعب) بالحديد والنار، والقتل البشع، والحرق والتخريب والتهديم، حتى صارت رائحة الدم في كل مكان، ولون القهر في كل زاوية، والشعب السوري الذي خرج سلمياً يطالب بالإصلاح والتغيير، لأنه ملَّ الظلم، وما عاد يطيق صبراً على الويل الذي حلَّ به، والكوارث التي أصابته عبر عقود طويلة من حكم هذا النظام الفاسد المجرم، وكان الأولى بالنظام أن يستجيب لمطالب الشعب، ويعمل على الإصلاح والتغيير، لكن هذا النظام الذي ألف الجريمة، واعتاد على تكميم الأفواه، والسجون والمشانق للأحرار، وركيزته منظومة مخابراتية هي أداته في التعامل مع مخالفيه، بل حتى والناصحين له، فذاق الشعب السوري خلال هذه العقود كل ألوان الضيم، وأنواع الطغيان، وأشكال الدكتاتورية.
هنا رأت تركيا أن تتدخل في هذا الشأن للإصلاح ولملمة الأمر، على قيمة يتفق عليها، فتواصل مع النظام في سورية، وحاوره، وقدم له النصائح والمقترحات لعله يفيد منها، أو أن يكون عاقلاً في معالجة المشكلة، ولكن من شب على شيء شاب عليه.
فأغلق نظام الفساد في سورية أذنيه، وأغلق كل منافذ التعديل والتغيير، ولما زاد ظلم النظام وبطشه، هنا أدرك الشعب السوري الذي طوى صفحة المطالبة بالإصلاح، أنه لا بد من المطالبة بإسقاط النظام، لأن نظاماً كهذا لا ينفع معه إلا البتر والاستئصال، والسكوت عنه لا يزيده إلا شراً وبطشاً.
هنا تماهت تركيا مع مطالب الشعب السوري المظلوم المقهور، وساندت حراكه، وفتحت له أبوابها، واستقبلت اللاجئين، وكانت مستشفيات تركيا مفتوحة أمام أفواج الجرحى والمرضى القادمين من سورية، مع تسهيل في المعاملات، وتعاون في مركب نظام الإقامات، وفتحت أبواب المدارس والجامعات لأبناء الشعب السوري، ونشر ثقافة التعاون مع الشعب السوري المظلوم، والتعامل معهم على أنهم إخوة وجيران، وضيوف في بلدهم، حتى تأسست منظمات سورية، وجمعيات ومدراس وجامعات، فصاروا جزءاً من تركيبة المجتمع التركي، وهم يقومون بشأن السوريين، سواء في المدن التركية، أو المخيمات، أو الداخل السوري، وكانت تركيا منفذاً مهماً لأبناء الشعب السوري، بل هي الرئة التي يتنفسون منها، فنشطت مؤسسات المجمع المدني التركية، وتعاونت الجمعيات الإغاثية في توصيل المساعدات للبلد المنكوب سورية، إضافة للمواقف السياسية المساندة، وكل هذا كلف تركيا كثيراً من المعاناة التي لم تجعل تركيا تندم على موقفها؛ لأنها مواقف تنبع من رؤية صلبة، وتفكير إستراتيجي، يقوم على نصرة المظلومين، وفتح أبواب تركيا للمضطهدين.
من هنا، نقول وبأعلى صوت الصدق، ومن أعماق القلب: “شكراً تركيا”؛ لأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ولأن من طبع الوفي أن يشعر تجاه من أسدى له معروفاً، بالعرفان والفضل، ويقول له: جزاك الله خيراً، ونقول لتركيا رئيساً وحكومة وشعباً ومنظمات وجمعيات وأحزاباً: جزاكم الله خيراً، وجعل ذلك في صحائف أعمالكم، ووقاكم من كل سوء ومكروه.
ومن صور الشكر لتركيا:
1- زرع ذلك الشكر في ثقافة أبنائنا لمزيد من الترابط، ولتوثيق العلاقات بين الشعبين والبلدين، على قاعدة التواصل المشترك الذي يجمع بيننا، ديناً وتاريخاً وجواراً وقربى، وتطوير ذلك إلى الاشتغال على أسس الترتيب لملتقى الهم المشترك، والتعاون الإستراتيجي.
2- على الأمة كل الأمة أن تقف إلى جانب تركيا في كل قضاياها، وخصوصاً منها تلك التي كانت بسبب مواقفها المشرفة من قضايانا المعروفة، ونشجع شعوبنا وحكامنا على مد اليد الإيجابية لتركيا، فهي بُعد إستراتيجي لا يجوز التفريط به.
3- التركيز على جعل تركيا موئلاً للزيارة والسياحة، وبشكل خاص للتراث الإسلامي العريق في هذا البلد التالد، من المساجد إلى العمارة الإسلامية إلى تراث الأدوات إلى منتجات الثقافة والمخطوطات إلى تاريخ العثمانيين، والقائمة تطول.
4- العمل على حث شعوبنا وبلداننا على استقبال المنتجات التركية، ففي هذا خدمة كبيرة لتركيا ونفع لبلداننا.
(وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2}) (المائدة).
(*) الأمين العام لهيئة سورية تناديكم – باحث وأكاديمي