أولاً: مفهوم القِيَم محل اختلاف بين المدارس الفكرية والثقافات الإنسانية، بحسب المجال المعرفي الذي ينطلق منه الباحث (الاقتصاد.. الاجتماع.. الفلسفة.. علم النفس.. التربية.. )، وبحسب المرجعية التي يحتكم إليها.
غالب الناس يستخدم لفظ “القِيَم” بمعنى إنشائي مطاطي غير محدد، ويُعبِّر به عن الأخلاق أو التقاليد الموروثة أو الهوية أو المصلحة أو الأهمية.
وهي تمثل المعايير الجوهرية التي تحكم نشاط الإنسان.
القيمة تشمل الشيء ونقيضه؛ فالمعرفة قيمة عليا، والجهل قيمة دنيا.
ولكن غلب استعمال القيمة على ما يدل على الفضيلة والخير، ولذا فالقِيَم لا تكتفي بما هو موجود وقائم، بل تسمو إلى ما هو أفضل وأرقى.
وأشهر القِيَم ما احتواه الثالوث الشهير: (الحق، والخير، والجمال).
ثانياً: يقع تعارض بين قيمنا التي نؤمن بها وأهوائنا ودوافعنا الغريزية.
وقد يؤثر السلوك العملي على قناعتنا القيمية، وهذا يحدث تداخلاً بين ما يسميه العلماء بـ”الشهوة” و”الشبهة”، وقصة حاطب بن أبي بلتعة، ومحاولة إخبار أهل مكة بالسر العسكري؛ المتعلق بخروج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة؛ مثال للاختلاف بين الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء) (الممتحنة:1)، وبين الفعل المذموم: (وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ {1}) (الممتحنة).
نموذج الشعراء الذين يهيمون في كل واد ويقولون ما لا يفعلون، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) (الشعراء:227).
ولعل لهذا علاقة بالاختلاف بين “المدرسة الواقعية”، و”المدرسة المثالية”، التفاوت بين ما هو كائن وما يجب أن يكون.
ثالثاً: يحدث تزاحمٌ وتدافعٌ بين بعض الواجبات الأخلاقية القيمية وبعضها الآخر؛ فالقيم ليست في مستوى واحد في أولويتها وأهميتها، ولا في اتساعها وشمولها، ولا في عمقها ورسوخها.
والحياة لا تسير على سنن واحد بل يقع فيها التضارب بين النوايا والمقاصد والأفعال، ولذا كان عمر بن عبدالعزيز يقول: “يجدُّ للناس من القضايا بقدر ما يجدُّ لهم من الفجور”، ويقول أبو سعيد بن لب: “ويجدُّ للناس من المرغبات بقدر ما يجدُّ لهم من الفتور”.
– هناك قيم تتعلق بالفرد، وأخرى تتعلق بالجماعة، ومن هنا قال الأصوليون: إن المصلحة العامة تُقدَّم على المصلحة الخاصة.
قيمة الإيثار في مقابل الأثرة، “نحن” مقابل “أنا”؛ هي نوع من انتصار القيم الاجتماعية على القيم الفردية الذاتية، ولذا مدح الله الأنصار بأنهم: (يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9).
قيمة حفظ النفس هي من الضرورات الخمس؛ التي أجمعوا على أنها أهم مقاصد التشريع، ومع هذا تُقدَّم عليها قيمة التضحية والاستشهاد وإزهاق النفس في سبيل الأمة، وهذا يُعدّ قمة التفضيل للقيم الجماعية على القيم الفردية، واستشعار هذا المعنى من أهم أسرار بقاء وصمود نماذج المقاومة الوطنية العادلة عبر التاريخ إلى فترة مقاومة الاستعمار، ومنها الحالة القائمة في فلسطين وغيرها.
– تفضيل القيم الروحية الإيمانية على القيم المادية الجسدية؛ كما في حال الصوم وتجويع الجسد من أجل تطهير الروح.
رابعاً:
١- ثمَّ قيم مصدرها ديني وعقلي واجتماعي في الوقت ذاته “إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ”، وهي قيم جوهرية راسخة ثابتة لا تتغيّر، وتمثل المشترك الإنساني، والفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ كالعدل والإحسان (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) (النحل:90)، وهي مقدَّمة على غيرها.
٢- القيم الأولية الأساسية المتعلقة بـ”هوية الإنسان” من حيث هو، مقدَّمة على القيم الثانوية، مثل قيمة الكرامة الإنسانية: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً {70}) (الإسراء).
٤- قيم الغايات مقدَّمة على قيم الوسائل، فالحفاظ على البيئة مقدَّم على مصلحة جماعة ما في الغنى وامتلاك القوة والاستمتاع: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ {10}) (الرحمن).
وقيم العمران العام والتنمية البشرية الشاملة المستدامة مقدَّمة على ما يتوهم أنه ملكية أو مصلحة لفريق خاص.
وقيم التوحيد والعبادة مقدَّمة على وسائل التعبُّد الفرعية عند التعارض.
٥- القيم الروحية مقدَّمة على القيم الماديّة، ومن هنا يمكن النظر والمفاضلة ما بين تزكية النفس؛ التي هي من مقاصد الرسالة، وما بين الترفيه؛ الذي هو من مطالب الفطرة.
خامساً: هل العدل قيمة مطلقة؟
من أقوال الإمام ابن تيمية: “الْعَدْلُ وَاجِبٌ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَالظُّلْمُ محرَّمٌ مُطلَقاً لَا يُبَاحُ شَيْءٌ مِنْهُ بِحَالِ”، “الدُّنْيَا تَدُومُ مَعَ الْعَدْلِ وَالْكُفْرِ وَلَا تَدُومُ مَعَ الظُّلْمِ وَالْإِسْلَامِ”، “الْعَدْلُ نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا أُقِيمَ أَمْرُ الدُّنْيَا بِعَدْلِ قَامَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمَتَى لَمْ تَقُمْ بِعَدْلِ لَمْ تَقُمْ وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِهَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُجْزَى بِهِ فِي الْآخِرَةِ”.
فالعدل قيمة مطلقة ثابتة دائمة بلا مثنوية ولا تردد؛ على النفس، والولد، والوالد، والعدو، والصديق.
وهذا لا ينفي نسبية الممارسة التي جعلت البعض يصفون الحياة الإنسانية بأنها تاريخ متصل من الصراعات الدامية؛ التي تستهدف فرض معيار موحد للعدالة!
على أن هذا ليس توصيفاً جدِّياً، فالصراعات التي عانى منها الإنسان كانت في الغالب صراعاً على المصالح الفئوية أو المطامع الفردية.
واليوم نشهد تبايناً بين سياسات الدول الكبرى والمنظمات الدولية السياسية من جهة، وبين المنظمات الحقوقية الإنسانية من جهة أخرى، فضلاً عن شكوى الشعوب المضطهدة المغلوبة على أمرها.
وندرك كيف أصبحت القيم والحقوق مطيَّة لأهواء السياسات العالمية الجائرة؛ التي تحركها إن أرادت الضغط على بلد وتُصعِّدها إعلامياً، وتسكت إن رضيت وكأن شيئاً لم يكن!
المقارنة بين الهجوم على العراق أو ليبيا -مثلاً- وبين الإحجام عن حسم القضية السورية؛ يكشف جانباً من الخداع الأممي بتغليف المصالح الاقتصادية – المتعلِّقة بالنفط، أو الأمن “الإسرائيلي”، أو غيرها – بغلاف الإنسانية، وحفظ كرامة الشعوب، وحقوق الإنسان، وحقوق الأقليات!