أسطورة عروس النيل تحكي أن النيل تراجع خطوة، فأشار الكاهن على الملك بأن يداري غضب النهر بإلقاء جارية حسناء محملة بالحلي فيه.. حتى أصبح هذا الزفاف الدموي عادة تاريخية.
ويقول مؤرخون: إن عمر بن الخطاب رفض هذه العادة، وكتب رسالة إلى النيل مفادها: “إن كنت تجري من ذاتك فلا تجرِ، وإن كنت تجري بإرادة الله فامْضِ”، وهي رواية منكرة واهية الإسناد عند أهل المعرفة.
لا غرابة أن ينظر المصريون إلى النيل كصديق يتغمّدهم بالرِّفْد والعطاء، فهو يجري فوق هذا الثرى الطيب من آلاف السنين، ويصل إلى مصر بشوق محب يلتقط أنفاسه بعد رحلة طويلة عامرة بالمتاعب، حيث تعترضه مساقط ومنحدرات وهو مندفع صعوداً وهبوطاً لا يلوي على شيء حتى يصل إلى غايته، ويتهادي بوقار إلى مصبه.
لست أدري إذاً لماذا يلجأ شاب وفتاة إلى الانتحار برمي أنفسهم في النهر؛ كما يفعل مأزوم أو محبط، والمؤمن يستلهم من النيل أن الحياة دأب لا يتوقف، وجريان لا يأبه بالمعوقات، وتدفق يضج بالإصرار؟
ليس في مصر وحدها بل في الجسد الأفريقي، فالنيل هو الشريان الرئيس الذي يغذيه، فلا عجب أن تقوم حوله الحضارات فيشهد ميلادها ثم تنهار فيشهد موتها ويظل دائباً بأمر خالقه لا يفتر ولا يتوقف.
يا نيل كم من شراع..
يا نيل كم من سفين..
أسلمتها للوداع..
على مدار السنين؟
يفرح النيل فيزغرد كمصري ينتمي إلى الحياة، ويواجه الأحزان بابتسامة ونكتة ساخر..
ويكتم أنينه حيناً ويسير صامتاً موجوع القطرات عارفاً ألا شيء يدوم!
دول حوض النيل العشر من المنبع إلى المصب تعتمد عليه في الزراعة أو تنتظر فيضانه في الصيف لتخصيب الأرض.. تلك المناسبة التي كانت ترتبط عند الفراعنة بطقوس مقدّسة واحتفاليات بهيجة تم تصويرها بالنحت على جدران بعض المعابد، وحسب قوته وضعفه يكون مقياس الخصب أو الجدب؛ كما في قصة يوسف والسنين السبع الدائبة، ثم السبع الشداد العجاف حتى قال المؤرخ اليوناني هيرودوت الكلمة الشهيرة: “مصر هبة النيل”.
من ثروته السمكية يغتذي جيرانه، وعبر مائه الرخي ينتقلون ويتبادلون البضائع، ومن قوته واندفاعه يقبسون الضوء ويوقدون المصابيح، وقد وصفه النبي صلي الله عليه وسلم بأنه من أنهار الجنة!
من ذلك الهائم في البرية؟
ينام تحت الشجر الملتف والقناطر الخيرية؟
مولاي هذا النيل نيلنا القديم!
لا بد أن يبرز لي أوراقه الرسمية!
شهادة الميلاد..
والتطعيم..
والتأهيل..
والموطن الأصلي..
والجنسية..
لكي ينال الحق في الحرية!
الجنسية مصري، ولذا يمضي من الجنوب إلى الشمال عكس اتجاه أنهار العالم صوب الغاية التي يمضي إليها طوعاً؛ ليشهد نهايته هناك ويرمي بنفسه في أحضان البحر!
أما شهادة الميلاد فينبع ثاني أطول نهر في العالم من بحيرات وسط أفريقيا ماراً بتنزانيا وأوغندا وإثيوبيا والسودان؛ مما ينذر بالصراع بين دوله حول المحاصصة المائية؛ التي هي أثمن وأهم من كل كنوز الأرض، والأيدي الصهيونية الخفيّة تدعم تعويق جريان النهر؛ لتؤدب شعب مصر أو تركعه، وقد تجوع مصر أو تعطش أو تنام في الظلام بسبب السدود التي تبنيها بعض دول الحوض؛ مما يحتم تنمية شاملة مستدامة بين هذه الدول، ومصر ذات الهيبة هي واسطة العقد ولسان الميزان.
مهما جاعت مصر فلديها تاريخ الصبر الطويل، ومهما عريت فلديها القز، ومهما افتقرت فلديها يوسف المبشر بالبقرات السمان!
أما التطعيم والتأهيل فيحميها من التلوث؛ الذي يغير لون ماء النيل، ويضر بصحة ملايين الأطفال، ويجلب الكثير من الأوبئة، ويسبب نفوق الأسماك أو تلوثها؛ ليصبح ماء النيل مصدراً للمعاناة بعد أن كان مصدراً للعافية، ويكلف الخزينة مليارات الجنيهات سنوياً.
صحيح أن النيل ماض لا يحتج على كمية النفايات؛ التي ترميها معظم القرى المصرية؛ التي يمر بها من مخلفات الصرف الصحي إلى الحيوانات النافقة إلى مخلفات المصانع إلى بقع الزيت إلى المواد السامة.. ولكن ما هكذا يصنع المصريون مع أصدقائهم الذين يمنحونهم الحب والري والجود.
المصريون هم عشّاق النيل.. تغنّوا به شعراً، وكتبوه أدباً، ورسموه لوحات فنية رائعة الجمال؛ منذ السيوطي إلى أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وأحمد رامي، وفاروق جويدة، وأمل دنقل.. فأين غابت هذه الثقافة عمن يري جمال الألوان في عشيات القاهرة وهي تنعكس على النيل، ويسمع صوت خرير المياه ويشم من النهر ريح الحياة ثم تطيب نفسه أن يشوه هذا الجمال بسلوك أناني وكأنه يرمي نفاياته في وجه كبير العيلة؟
متى إذاً ينال النيل الحق في الحرية؟!