عندما بدأت برنامج الدكتوراه بجامعة واشنطن، لفت انتباهي مُشرف البحث، إلى وجود عضو هيئة تدريس متخصص في الدراسات الإسلامية، ويعمل في قسم الدراسات الشرق أوسطية، وأشار عليّ بترتيب لقاء معه للتعرف عليه.
عندما التقيت بالأستاذ وهو إيراني مسلم، وجدتُ عقلاً راجحاً وفهماً عميقاً وسيرة ذاتية عالية الجودة! وفي منتصف النقاش حدثني هذا الأستاذ عن محاولاته العديدة للدراسة في السعودية، وكيف أنه حاول الحصول على منحة دراسية بجامعة أم القرى أو الجامعة الإسلامية أو أي جامعة سعودية أخرى، ولكنه لم يحصل على ذلك، وكان الخيار الآخر لديه جامعة هارفارد! ولأنه فقد الأمل في الدراسة في السعودية فقد قرر بتردد أن يتجه إلى جامعة هارفارد – كلية القانون للدراسة، حيث قبلته الجامعة من قبل، لكن الجامعات السعودية كانت خياره الأول.
في زيارة لي للعاصمة واشنطن التقيت بأخ مسلم أمريكي من أصول أفريقية، وحدثني بمرارة عن عدم قبوله في أيٍّ من الجامعات السعودية، على الرغم من قبوله من جامعة هارفارد وجامعة كولومبيا، وبما أنه لم يستطع الدراسة في السعودية فليس أمامه إلا الاختيار بين إحدى هاتين الجامعتين.
هارفارد وكولومبيا من أفضل عشر جامعات في العالم
قبل أيام كنتُ مغادراً المكتبة الأسدية في حي العزيزية بمكة المكرمة والتقيت بأحد الإخوة الفلسطينيين من رام الله تحديداً، وعرضتُ عليه أن أُقلهُ بسيارتي إلى الحرم، الأخ شهد حسان شاب فلسطيني لطيف، مهتم بالعلم الشرعي طلباً وتعليماً، حدثني عن أمنيته التي لم تتحقق، وهي الدراسة في إحدى الجامعات السعودية، ثم حكى لي كيف قدم أوراقه إلى الجامعة الإسلامية ولم يأته إشعار القبول إلا بعد 5 سنوات من الانتظار! يقول: قدمت بعد الثانوي ولم يصلني إشعار القبول إلا وأنا في نهاية الماجستير بإحدى جامعات فلسطين!
هناك عشرات القصص مقاربة لتجربة هؤلاء الثلاثة ولكن مساحة المقال تتطلب الاختصار.
أحد أهم العوامل التي ساعدت في استمرارية قيادة أمريكا للعالم عنايتها الفائقة باستقطاب العقول، ولهذا فإنك تجد كثيراً من المؤثرين في المجتمع الأمريكي هم من أصول غير أمريكية، سواء في التخصصات النظرية أو التجريبية، هذا من حيث الأثر البالغ لهذه العقول المهاجرة في الواقع الأمريكي نفسه، أما من حيث تأثير العقول الدارسة في الجامعات الأمريكية على بلدها الأم بعد العودة إليه فحدّث ولا حرج، حيثُ إن كثيراً من العقول غير الأمريكية الدارسة في الجامعات الأمريكية تُهيأ لتكون مؤثرة عند عودتها لبلدها، وهذا ملاحظ بشكل لافت خاصة في المجتمعات التي صمدت في وجه مشاريع فرض القيم الغربية، فإن كثيراً من هذه العقول العائدة تعود لتسوق للحياة الغربية فكراً وتطبيقاً إما ببث هذه الأفكار عبر وسائل التواصل والتأليف، أو بفرضها عبر المناصب المؤثرة التي أُعطيت لها.
ولأهمية هذا، فإن دولة إيران أولت هذا الأمر – استقطاب العقول – أهمية كبيرة، لتسويق ونشر المشروع الصفوي، وقد نجحت في ذلك نجاحاً باهراً، فالمنح الدراسية التي تُقدمها إيران خصوصاً لمواطني الدول الأفريقية تتجاوز بأضعاف مضاعفة عدد المنح التي تُقدمها الجامعات السعودية وجامعات الدول الإسلامية مجتمعة! وكنتيجة لتركيز إيران على هذه النقطة فإنها الآن تجني ثمرة ذلك في العديد من الدول بعد عودة أبناء تلك الدول من بعثاتهم الدراسية في إيران، وتمكينهم من مناصب حساسة في دولهم.
أن تستقطب طالباً من دولة أخرى للدراسة لديك، ثم تُهيئ له كل ما يحتاجه من الأدوات المعرفية فهذا يعني أنه سيكون سفيرك غداً في بلاده، وسيكون طريقه للتأثير ممهداً وأسهل بألف مرة من تأثيرك المباشر، لأنه يعود إلى قومه بعلم ومنصب، وهو ابن البلد فالشك فيه منعدم، فما بالك إذا كان هذا الشخص قد درس في دولة لها ثقلها ومكانتها ورمزيتها عند المسلمين مثل السعودية؟ حتماً سيكون تأثيره أكبر بكثير من العائدين من دهاليز قم!
إن الحرب القائمة على الإسلام هي حربٌ فكرية وعسكرية، والملاحظ أننا في الجانب الفكري متأخرون جداً، على العكس من العدو الصفوي وسيده الغربي، ومع أن المواجهة الفكرية أقل تكلفة وأكثر فائدة؛ إلا أننا لم نعطها قدرها بعد، ولا أدري هل هذا عائدٌ إلى عدم إدراكنا لحقيقة الخطر الذي يحتفُ بنا أم لعدم إدراكنا لأهمية هذه النقطة؟
إن فتح البعثات للمميزين من غير السعوديين للدراسة في الأقسام النظرية في الجامعات السعودية ضرورة شرعية ثم وطنية، ومن الواجب على المسؤولين والمؤثرين أن ينظروا في الأمر بشكلٍ عاجل، وإلا فإني أخشى أن تحُلُ ساعة الندم بعد فوات الأوان.
المصدر: نوافذ.