– إذا أردنا أن يكون أولادنا خير ثمار فعلينا أن نبرَّهم بحسن تربيتهم ومعرفة حقوقهم
– أن تبدأ تربيتك لولدك تربية مجردة من الإيمان فهي ثغرة كبيرة وفجوة واسعة وهُوَّة سحيقة
– عليك أن تملأ قلب ولدك بالإيمان وتحشوه باليقين فهو قلب غضّ طريّ مؤهل لاستقبال ما يملؤه
أولادنا فلذات الأكباد، إنهم ثمرات الأفئدة، وعيون القلوب، ونبضات الحياة، هم الجمال والبهجة والأنس والسرور، بهم تسير عجلة الحب الفطري دون توقف، وتزهر النفوس معها بالشفقة والرحمة المستودَعة في قلوب الآباء، فلا يجدون الراحة إلا حينما يرونهم يضحكون، ولا تطمئن نفوسهم إلا وهم يمرحون، ولا تقر أعينهم إلا وهم صالحون.
تسعدنا ضحكاتهم، وتلهينا حاجاتهم، ويأسرنا حبهم، فمن أجلهم نتعب، ولأجلهم نكدح، فإن مرضوا مرضنا، وإن تعبوا سهرنا، وإن اشتكوا أصابنا الهمّ والأرق؛ فهم زهور الحياة وزينتها، وهم لنا امتداد الأثر بعد الممات، وعمرنا الثاني حين تفنى منا الأعمار، وبهم ومعهم تضحى الحياةُ حياة!
مع كل هذا الحب الذي يكنه الآباء للأولاد فقد يحصل منهم القصور في تربيتهم والتقصير في حقوقهم، عمداً أو خطأ، جهلاً أو نسياناً، حُباً خاطئاً أو شفقة زائدة، لكن هذا في النهاية ليس له إلا نتيجة واحدة؛ ألا وهي التعثر في نمو بذرة الولد بالطريقة المرضية، فتخرج ثمرتها مُرة المذاق معوجَّة أو منحرفة عن طريق نموها الصحيح، فإذا حُجب عنها شمس التربية الصحيحة، وزاد ريّها عن الحدّ المعتاد في أمثالها؛ غرقت في بحر الظلمات، وإن نقص عنها يبست وقسا قلبها وصار ضعيفاً كالهشيم تذروه الرياح.
لذا فإننا إذا أردنا لأولادنا – وهم ثمار الحياة – أن يكونوا خير ثمار فعلينا أن نبرَّهم، وبرُّ الآباء للأبناء يأتي بحسن تربيتهم ومعرفة حقوقهم، والحرص على سلامة قلوبهم كما نحرص على أبدانهم بل يزيد، فإننا إن فعلنا ذلك فقد قدمنا لهم البِرّ في أحسن صوَره، فلو ربوا على التقوى والصلاح والحب والرحمة، ولو نشؤوا على مكارم الأخلاق والدين القويم فقد تحقق بِرّنا بهم؛ وحق لنا أن نطالبهم أن يبرونا، أما إذا عققنا أولادنا فلم نحسن إليهم، وقصر فَهْم برنا لهم في المطعم والمشرب والمسكن والمنكح فلن يكونوا لنا قرة العين في الدنيا والآخرة.
فيا ليت شعري كيف يفوز كل منا بقرة الأعين هذه، وكيف يلبي نداء ربه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً) (التحريم:6)؟ وهذا ما أردت الوصول إليه – بمشيئة الله – في هذه السلسلة الجديدة من «محطات إيمانية في طريق التربية»، فما أشبه الدنيا بطريق طويل تتخلله محطات كثيرة ومتنوعة، وهذه المحطات نحتاج للوقوف عندها للتزود منها وفيها بوقود التربية اللازم لصلاح أولادنا حتى يصل كل منا مع أولاده إلى مبتغاه، حيث النهاية السعيدة وقرة الأعين.
لذا سنقف معاً في هذه السطور عند أولى المحطات وأهمها في هذا الطريق.
المحطة الأولى: الإيمان بالله:
أن تبدأ تربيتك لولدك تربية مجردة من الإيمان فهي ثغرة كبيرة وفجوة واسعة وهُوَّة سحيقة، تكاد أن توقعه فيها من حيث تدري أو لا تدري، بقصد أو بغير قصد.
والتربية مصدر الفعل ربَّى، يقال: ربَّى الأبُ ابنَه: أي هذّبه ونمّى قواه الجسميّة والعقليّة والخُلقيّة كي تبلغ كمالها، وسهر على تربية ابنه تربية سليمة: أي تهذيبه وتعليمه وتنشئته.
والتربية الصالحة للولد ليست نافلة من العمل، بل هي فرض وواجب على كل مربّ لا سيما الوالدين، فهي طاعة لله تعالى وأداء للمسؤولية وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6}) (التحريم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» (متفق عليه)، وهي حفظ للأمانة وفيها الأجر والثواب، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ {8}) (المؤمنون)، ولها من الثمرات الكثير، ففيها التأثير الطيب على الولد فتصلحه في حياته وتنفعه بعد مماته، وهي صدقة جارية تجري لوالديه في الدنيا والآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، وهي سبب مهم من أسباب صلاح الولد ومن ثَم صلاح الأسرة، فالمجتمع، فالأمة.
فإذا نشّئ الولد على الإيمان بالله نشأ مؤمناً خيّراً محباً لكل خير ساعياً إليه، وإذا أهملت تنشئته فقدت الأمة فرداً من أفرادها وإن كان يُعَد ظاهراً في تعداد أبنائها صورة واسْماً وهيئة وكَماً.
أساس التربية الصحيحة:
وإن أساس التربية الصحيحة وقاعدتها الصلبة التي يبنى عليها كل خير وصلاح هو الإيمان بالله عز وجل رباً خالقاً، وإلهاً معبوداً، وحاكماً مشرِّعاً، وكلما كان هذا الأساس قوياً قَوِيَ البناء المقام عليه، وإن كان ضعيفاً هشاً وقع وسقط عند أول ريح فتنة أو نفحة بلاء؛ لذا فإن من أولويات التربية السليمة وأول درجة في سُلَّمها العالي تربية الولد على الإيمان بالله تعالى ربّه وخالقه، وإلهه ومعبوده؛ يأمر فيُطاع ولا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، أن يتربى الولد على المراقبة والخشية والمحبة والقرب من خالقه ومولاه العظيم ويربط عمله وأقواله ونظراته بالله، وتلك هي التربية المثالية، والحب الحقيقي لفلذات الأكباد حين ينشؤون على ذلك.
فالإيمان بالله الواحد عقيدة كل مسلم، يعقد قلبه عليه دون أن يخالطه ذرة من شك أو أدنى ريب أو قليل من تردد، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال له: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» (رواه مسلم)، وهذه هي أركان الإيمان الستة التي يجب على الوالدين والمربين أن يغرسوها في قلوب الناشئة من البنين والبنات ويولوها الرعاية المناسبة، ويستمروا في ريِّها وطرد آفات الفتن المضلة عنها، وتفنيد الشبهات المشككة فيها، والتعامل مع شهوات النفس الصادّة عن سبيلها بتوسط واعتدال، حتى تثمر مسلماً حقيقياً صالحاً قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً، مع طلب العون والغوث من الله تعالى الهادي والحافظ والمعين، ودعائه بالهداية لهم وقرة العين بهم، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً {74}) (الفرقان)، قال الحسن عن قرة الأعين المذكورة في الآية: إنها في الدنيا، وذلك حين يرى المؤمن زوجته وولده يطيعون الله، وذكر ابن عباس أنها في الدنيا والآخرة، وقال ابن عاشور: هذه صفة ثالثة للمؤمنين بأنهم يعنون بانتشار الإسلام وتكثير أتباعه فيدعون الله أن يرزقهم أزواجاً وذريات تقر بهم أعينهم، فالأزواج يُطِعْنَهم باتباع الإسلام وشرائعه، والذُّريات إذا نشؤوا نشؤوا مؤمنين، وقد جمع ذلك لهم في صفة «قرة أعين»، فإنها جامعة للكمال في الدين واستقامة الأحوال في الحياة؛ إذ لا تقر عيون المؤمنين إلا بأزواج وأبناء مؤمنين.
لذا فإن عليك أيها المربي أن تملأ قلب ولدك بالإيمان وتحشوه باليقين، فهو قلب غضّ طريّ فارغ ومؤهل لاستقبال ما يملؤه، ولن يمتلئ إذا حشوته بطريقة لا تناسب رقته وعمره وفهمه وقدرته على الاستيعاب، ومن هنا كان لا بد أن تسلك به مسلكاً عملياً لطيفاً يتسلل الإيمان من خلاله إلى قلبه دونما استئذان.
بيئة الطفل وعلاقتها بالإيمان:
بإمكان الوالدين غرس أصول الإيمان في قلب الولد من خلال اللعبة التي يلعب بها، والبيضة التي يأكلها، وكوب الماء أو اللبن الذي يشربه، والسرير الذي ينام عليه، والأرض التي يمشي فوقها، والحديقة التي يتنزه فيها، والشمس التي تشرق عليه كل صباح، كل ذلك يمكن أن يتم بطريقة نظرية تتعانق مع الرؤية والمشاهدة، فاللعبة التي يحبها لم تصنع نفسها، والبيضة تتحول بقدرة الخالق العظيم إلى فرخ وليد تدب فيه الحياة، والماء عذب فرات ولو شاء الله لجعله ملحاً أجاجاً، واللبن صافٍ خالص سائغ للشاربين، والسرير الخشبي أو الحديدي هو من صنع صانع صنعه بيديه، أما الأرض المذللة والحديقة الملونة بالخضرة وألوان الورود البهيجة والشمس التي تملأ الكون نوراً وحياة فكله من صنع قدير هو الله عز وجل، وهكذا الكون كله، وقد ضرب الإمام أبو حنيفة لذلك مثلاً فقال: ما تقولون في رجل يقول لكم: إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال مملوءة من الأثقال قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ورياح مختلفة، وهي من بينها تجري مستوية، ليس لها ملاح يجريها، ولا متعهد يدفعها، هل يجوز ذلك في العقل؟ فأجيب بأن هذا شيء لا يقبله العقل، فقال أبو حنيفة: يا سبحان الله! إذا لم يجز في العقل سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهد ولا مجرٍ؛ فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها وتغير أعمالها وسعة أطرافها وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟!
غرس الإيمان من خلال بيان نعم الله:
كما أن بإمكان الوالدين أن يجعلا من ولدهما عبداً مؤمناً محباً لربه عز وجل من خلال بيان نعم الله عليه من سمع وبصر وعقل ورزق وأسرة، وغير ذلك مما يجده الطفل في محيطه مما يستوعبه عقله، فقد أعطاه أمّاً تحبه، وأباً يرعاه، وإخوة وأسرة، كل ذلك دلالة حُب الله لعباده، سبحانه وتعالى، وهو يطعم جميع خلقه، ينعم بالمال والصحة والزوج والولد وتسخير الكون كله للإنسان، فيقول تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {13}) (الجاثية)، ويبدأ المربي بتعداد النعم التي يتمتع بها الولد حسب حاله وعمره وفهمه ليصل معه إلى حقيقة واضحة لا لبس فيها ولا غموض؛ وهي أن الله تعالى هو الخالق وحده، فلا أحد يخلق معه أو يشاركه، وهو يقول لنا: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {17}) (النحل)، وبناء على ذلك يجب حبه وعبادته وحده كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ {20}) (النحل)، فإذا استقر الإيمان بالله في قلب الطفل أتت بقية أركان الإيمان تابعة له.
التربية على الإيمان بِرّ من الآباء بالأبناء:
إن احترام عقل الطفل وتقديره ومحاولة الرقي به في درجات الإيمان حسب حاله وفهمه من شأنه أن يأخذه إلى ساحة الإيمان الرحبة التي كرمت العقل وخاطبته، ويمكن للوالدين والمربين أن يقوموا بذلك بوسائل سهلة بسيطة بعيدة عن التعقيد، فحبة الفول حين يزرعها الطفل بيديه ويباشرها بنفسه ويرى نموها وإنباتها لهو درس عملي في معرفة الخالق سبحانه الذي أنبتها وأثمرها، ورؤية الورود وهي تتفتح وتبرز في أزهي حلة ثم لا تلبث أن تذبل وتتساقط لهو درس عملي مبسط في تقرير الحياة والموت، كما أن ازدهارها بعد موتها فيما بعد هو بمثابة بعثها بعد أن ماتت.
فمن الضروري أن نعلم الأولاد في صغرهم أصول الإيمان بطريقة عقلية سهلة بعيدة عن التعقيد، لا سيما في هذا الزمان الذي صار الإقناع فيه وسيلة من وسائل الإيمان والثبات عليه، مع غيره من الوسائل الأخرى كالقصص والأمثلة والحوار، كلٌّ بما يناسب عمر الولد وفهمه وحاله ومكانه.
واعلم أيها المربي أن ثمرتك من جنس ما تزرع، وأن ما تبذله في تربيتك وتوجيهك لولدك لا ولن يضيع، فقد قضى الله تعالى أنه لا يضيع أجر المحسنين، وأنك إذا قمت بتربية ولدك على صدق الإيمان بالله، فقد بررته.
المراجع
1- معجم المعاني الجامع
http://www.almaany.com .
2- تفسير الإمام الطبري.
3- التحرير والتنوير، للشيخ ابن عاشور.
4- تبسيط العقائد الإسلامية، للشيخ حسن أيوب.