كان د. طه حسين (1306 – 1393هـ/ 1889 – 1973م) واحداً من بلغاء العصر، ومن كلماته الجامعة: “إن الكلام العربي: شعر ونثر وقرآن”!
وهذه الكلمات الجامعة تلفت الأنظار إلى أن القرآن، وهو عربي، مكون من الحروف والكلمات العربية، إلا أنه معجز ومفارق للأساليب البشرية العربية بألوان من الإعجاز، ستظل كنوزها مفتوحة الأبواب أمام العقول المتدبرة لهذا القرآن.
ومن ألوان هذا الإعجاز ما يمكن تسميته بإعجاز الهندسة في النظم القرآني، ذلك أن أسلوب القرآن وصنعته ينفردان — دون كل صناعات الأساليب البشرية — بهندسة خاصة في استخدام الكلمات، وعلى سبيل المثال: فالقرآن يستخدم كلمة “المطر” في العذاب والأذى والانتقام، أما في السراء فيستخدم كلمة “الغيث”!
ويستخدم مصطلح “التغيير” للسلبي، أما في الإيجابي فيستخدم مصطلح “الإصلاح”!
و”المرضع” في القرآن هي المرأة في فترة الرضاعة – الحولين – أما “المرضعة” فهي المرأة في حالة الإرضاع!
و”الجسم” في القرآن يأتي للحي، أما الميت فهو “الجسد”، و”السنَة” تأتي للشمسية بينما “العام” يأتي للقمرية، و”القَسَم” يأتي لمطلق اليمين، بينما “الحلِف” هو للحنث في اليمين!
وهناك فارق بين “المجيء” وبين “الإتيان” في القرآن الكريم، فالمجيء يكون من مكان أو زمان قريب، بينما الإتيان يستخدم في حالة المكان أو الزمان البعيد!.
وكلمة “العباد” تغلب في المؤمنين المطيعين، بينما كلمة “العبيد” تغلب في الكفار والعصاة، ولقد جاءت “السماء” في القرآن الكريم، مفرداً وجمعاً، بينما جاءت “الأرض” مفردة فقط ودائماً، وجاء “البصر” مفرداً وجمعاً، بينما جاء “السمع” مفرداً فقط!
وجاء “النهار” مفرداً، وإذا جمع استخدم لفظ “أيام” — لا “نُهر”، وجاء “الصراط” مفرداً، وإذا أريد الجمع استخدم لفظ “سُبُل”.
وجاء “النور” مفرداً لا جمعاً، وجاءت “الظلمات” جمعاً، لا مفرداً!
وكان التزام الجمع في “الألباب” و”الأكواب” و”الأصفاد” و”الأباريق” و”السرابيل” و”الأساطير” و”الأرائك” و”العالمين”، ولم يرد أي منها مفردا، ففارقت الصنعة في القرآن الكريم كل صناعات الأساليب البشرية، بما في ذلك الحديث النبوي الشريف!.
وفي القرآن الكريم من أوجه التناسب ما يعلو به على أية “هندسة” بشرية في أي أسلوب من الإبداعات الإنسانية، وعلى سبيل المثال: فالحروف التي بدأت بها بها بعض السور القرآنية — مثل “طسم” و”ألم” و”حم” قد اشتملت على نصف حروف الأبجدية العربية – أربعة عشر حرفاً – وفي هذه الحروف الأربعة عشر حرفان منقوطان (ق، ن) واثنا عشر حرفاً غير منقوطة، وفي أحرف الأبجدية الأخرى الأربعة عشر، حرفان غير منقوطان هما (و، د) والاثنا عشر حرفاً الأخرى منقوطة!
وفي هذه الحروف التي بدأت بها بعض السور، نصف الحروف المهموسة في الأبجدية العربية ونصف الحروف المقلقلة ونصف الحروف المهموزة! وفيها من مخارج الحروف النص من كل مخرج!
وإذا كان القرآن قد بدأ بـ”الحمد لله رب العالمين” فإن كل أرباع القرآن الأربعة قد بدأت بـ”الحمد لله”، فالربع الثاني يبدأ بالأنعام “الحمد لله الذي خلق السموات والأرض” والربع الثالث يبدأ بالكهف “الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب” والربع الرابع يبدأ بفاطر “الحمد لله فاطر السماوات والأرض”.
وهكذا تفرد القرآن بإعجاز هندسي، ميزه عن الأساليب العربية، مع أنه قد جاء بلسان عربي مبين!
المصدر: “عربي 21”.