تقرر عند علماء السُّنة من الأصوليين وغيرهم أن كل حادثة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة يتناولها النص الشرعي سواء بطريق مباشرة أو غير مباشرة، وهذا ما يميز الشريعة الإسلامية عن الشرائع التي سبقتها، لذلك عبر عن هذه الخاصية بشمولية الشريعة، وصاغها العلماء في قواعد مختلفة توحي بمعنى واحد، وفي مقدمهم الإمام الشافعي حين قال: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها” (الرسالة: 19).
وقال ابن سريج: ليس شيء إلا ولله عز وجل فيه حكم. (البحر المحيط: 1/ 217).
وبات هذا الأصل أمراً ضرورياً لا خلاف فيه من جانب التنظير والعمل، يقول الإمام الحرمين: “والرأي المبتوت المقطوع به عندنا أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى متلقى من قاعدة الشرع” (البرهان: 2/3).
وهذا الشمول يتناول جميع جوانب حياة الإنسان على وجه المعمورة، فينظم علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمجتمعه، لأنه للدنيا والآخرة، ولأنه دين ودولة، وعام للبشرية وخالد إلى يوم القيامة، فأحكامه كلها تتآزر فيها العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، لتحقق ــ بيقظة الضمير، والشعور بالواجب، ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، واحترام الحقوق- غاية الرضا والطمأنينة والإيمان والسعادة والاستقرار، وتنظيم الحياة الخاصة والعامة وإسعاد العالم كله (الفقه الإسلامي وأدلته: 1/ 33).
تتمثل هذه الحقائق بجلاء حين نرعى عدداً من القضايا المستجدة تولدت عبر التاريخ، ومرور الدهور، احتاجت إلى أحكام تبين موقف الشرع منها، يلجأ المسلم إلى العلماء فيها لمعرفة حكم الشارع قبل الخوض فيها بداعي الهوى والعصبية، وذلك امتثالا منه بأمر الشارع حين أمره سبحانه (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ {43}) (النحل : 43)؛ لذلك نرى النووي ينقل في المجموع تحريم قيام المسلم بعمل قبل معرفة حكم الله فيه (مقدمة المجموع: 1/ 25)، وهذا نوع من الاجتهاد من جانب المسلم غير المتخصص.
أما العالم فلا يتمكن من الإجابة على السؤال في الحادثة الجديدة حتى يحقق شروط الاجتهاد، وهذه الشروط في الحقيقة مواصفات ومؤهلات علمية مكتسبة تساعده على إدراك حكم الله في الواقع المستجد، ومنهاج تنزيله.
وتتلخص مسالك الاجتهاد النظرية والعملية من فترة الصحابة رضوان الله عليهم إلى عصرنا فيما يأتي:
المسلك الأول تدبر النصوص والاستنباط منها: وقد كان هذا دأب الصحابة رضوان الله عليهم حيث يعملون العقول في النصوص الشرعية حتى يستنبطوا منها للحادثات الجديدة التزاما بالقاعدة المذكورة، ومن أمثلة ذلك:
ما وقع لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من شدة مراجعته لرسول الله صلى الله عليه في موضوع الكلالة حتى أغلظ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم يحكي عمر عن حالته: “إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعيه في صدري. وقال: «يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء.
قال عمر: وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن (أخرجه مسلم 1617).
فدلت مقولته أنه أخر عمر بن الخطاب القضاء في الكلالة لوقت لاحق حتى يظهر له منها وجه الحق حين يعمل فيها فكره ويستنبط من النص الموجود.
يقول النووي: “ولعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما أغلظ له لخوفه من اتكاله واتكال غيره على ما نص عليه صريحا وتركهم الاستنباط من النصوص.. فالاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة فإذا أهمل الاستنباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة أو في بعضها” (شرح النووي 11/ 58).
المسلك الثاني القياس على المنصوص: كان القياس أحد أرحب الطرق لاستخراج الأحكام الجديدة في الأحداث غير المذكورة في الوحيين، حيث يجتهد الفقيه إلى الوصول إلى علل الأحكام المنصوص عليها فيلحق بها أشباهها، وهنا أتاح القياس أمام الفقهاء تصويب قاعدة ما من واقعة إلا ولله فيها حكم.
جاء في “قواطع الأدلة”: “الضرورة داعية إلى وجوب القياس لأن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية، ولا بد أن يكون لله تعالى في كل حادثة حكم إما بتحريم أو تحليل فإذا كانت النصوص قاصرة عن تناول جميع الحوادث وكان التكليف واقعا بمعرفة الأحكام لم يكن لنا طريق نتوصل به إلى معرفتها إلا القياس”.
المسلك الثالث تحكيم الكليات الشرعية: وتعني الكليات الشرعية المبادئ العامة التي جاءت الشريعة لترسيخها وتدعيمها في كل مجالاتها العقدية منها، والتشريعية منها، والأخلاقية، وبعبارة أستاذنا الريسوني: “فإن الكليات تعني معتقدات وتصورات عقدية، وتعني قيما أخلاقية، ومقاصد عامة، وقواعد تشريعية، يقابلها الجزئيات، وهي كل ما يأتي تفصيلا وتفريعا وتطبيقا للكليات سواء جاء ذلك منصوصا أو اجتهادا من الفقهاء والمجتهدين، أو تنزيلا وممارسة من المكلفين”.
وأمثلة ذلك: الأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والتعاون على البر والتقوى.. وما يضاد كل هذه الأوامر من النواهي الشرعية فهي كليات كذلك.
لذلك نرى العز بن عبد السلام يقرر بناء على الآية (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {90}) (النحل) قاعدة نفيسة يقول: “كل من أطاع الله فهو محسن إلى نفسه بطاعته، فإن كان في طاعته نفع لغيره، فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره، وإحسانه إلى غيره قد يكون عاما وقد يكون خاصا، والإحسان هو عبارة عن جلب مصالح الدارين أو أحدهما، ودفع مفاسدهما أو أحدهما) (شجرة المعارف: 112).
اعتبر الريسوني تجربة العز بن عبد السلام من أنفس الأعمال بناها على الآية السابقة، وأظهر خلالها كيف أن شجرة الشريعة عموما متفرعة ومنبثقة عن القواعد الكلية المضمنة في الآية (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) (الكليات الأساسية: 42).
أهم ما في الأمر أن الفقيه المجتهد يمكن أن يحتكم إلى هذه الكليات الشرعية والاستمداد منها للوصول إلى أحكام الأحداث والمشاكل التي تجد هنا وهناك، ويحقق به قاعدة “ما من حادثة إلا ولله فيها حكم”.
المصدر: “إسلام أون لاين”.