تركزت معظم جهود المفكرين والمصلحين العرب خلال العقود الماضية على أهمية المنجزات العلمية والإصلاح الديني والسياسي كطريق نحو الصعود الحضاري للعرب والمسلمين بعد فترة تراجع مرير شهدت ولا تزال استعمارا وحروبا. أما الجانب الأخلاقي، فينظر كثيرون إلى التجربة الغربية باعتبارها تجربة ضعيفة الأخلاق بالنظر إلى السلوك الشخصي بين الجنسين في غالبية الدول الغربية. إلا أن هناك جانبا هاما لم يلتفت إليه كثيرون وهو جانب الأخلاق الاقتصادية في التعاملات التجارية في كثير من الدول الغربية المتقدمة. إذ يتم اختزال هذا الأمر باعتباره حصاد التقدم الطبيعي الذي تصل إليه الشعوب بعد أن تبلغ مستوى معين ما من التقدم.
والحقيقة أن دور الأخلاق الاقتصادية ليس هامشيا أو تابعا بهذه الطريقة ولا يمكن رده بسهولة إلى بعض نظريات السوق الحر أو الاختراعات العلمية. وكنت دائما أتشكك في إمكانية أن تقود الثورة الصناعية وحدها نهضة حضارية كاملة، فهناك العديد من الدول التي تقدمت صناعيا وأخفقت حضاريا وسياسيا. وقد وجدت أجوبة شافية على عديد من التساؤلات في كتاب بعنوان “شارلمان ومحمد، الجذور العربية للرأسمالية الأوروبية” للمؤلف جين هيك.
بحسب الكتاب، فإن هناك مشكلة اقتصادية كانت تعاني منها أوروبا في تلك الفترة. ولم تكن القارة الأوروبية كما هي الآن، بل كانت مفتتة بين عدة ممالك، وكانت هناك حاجة شديدة لإصلاح هذه البنى الاقتصادية المتهالكة. وقد حمَّل “هيك” الكنيسة مسؤولية تدهور الأحوال الاقتصادية لأوروبا في القرون الوسطى بسبب إضعافها للروح الفردية والمبادرة، وذم الغنى ومدح الفقر. الأمر الذي أدى لإلغاء الحوافز اللازمة للنشاط الاقتصادي. وفي الوقت نفسه كان الإسلام يعترف بالملكية الفردية والسوق الحرة ومشروعية الكسب، مما سمح للأدوات التجارية والمالية بالتطور في ظل الدولة الإسلامية وقتها.
ويوضح الكتاب أن أوروبا استطاعت أن تخرج من عصورها الوسطى المظلمة بفضل الطلب المتزايد على السلع من التجار العرب. كما يشرح كيف استفاد التجار الأوروبيون في القرن الثاني عشر من الأساليب المصرفية التي ابتكرها الفقهاء المسلمون مثل التسهيلات التي تتعلق بالشراكة والتسليف والتوكيل وهي أمور كان التبادل التجاري بحاجة ماسة إليها حينئذ.
في تلك الفترة أيضا كان هذا النمط من التجارة الإسلامية ينتقل إلى جنوب أوروبا عبر موانئ إيطاليا وصقلية، ومنها يتمدد إلى بقية أرجاء القارة في القرون اللاحقة. ولم يكن ينشر هذه الأساليب ويقودها التجار العرب المسلمون ديانة وحسب. إذ يشير المؤلف أن المسيحيين والهندوس واليهود والفرس كانوا أيضا عماد هذه التجارة الإسلامية. أي أن هذا المد الحضاري للمسلمين آنذاك كانت تقوده شعوب متعددة الأديان والأعراق استفادت منه أوروبا لتطور مشروعها الرأسمالي.
قد يتفق البعض ويختلف حول الأساليب الرأسمالية الحالية في إدارة الاقتصاد، ولكن نحن نتحدث عن فترة تاريخية بظروف مغايرة ومعادلة حضارية أثمرت منجزات هامة. والدرس المستفاد الرئيسي منها هو تلك المرونة وقدرة الفقهاء المسلمين على ابتكار أساليب تجارية مرنة تناسب العصر ولا تخالف الشريعة، مصحوبة بقدرة التجار العرب والمسلمين على هضم هذه الأساليب والتفاعل مع العالم اقتصاديا بشكل منفتح من دون حساسيات الأنا والآخر أو حواجز الدين والجغرافيا. هذا بالإضافة لأهمية دراسة التاريخ الاقتصادي الإسلامي في العصور الوسطى والذي لم يهتم به أحد سوى في أعمال قليلة منها كتاب ماكسيم رودنسون “الاسلام والرأسمالية” الصادر عام 1968. وأزعم أن إحياء التراث الاقتصادي الإسلامي فقهيا وبحثيا وعلى مستوى الممارسة كفيل بأن يحدث فروقا كبيرة للعرب والمسلمين اليوم. ونحن هنا لا نتحدث عن آليات الاقتصاد الإسلامي التي انتشرت في السنوات الأخيرة، ولكن عن الجانب الاجتهادي والأخلاقي في المعاملات التجارية، والتي من دونها لم يكن لأي اقتصاد أن ينجح ويزدهر.
—–
* المصدر: عربي 21.