من القواعد الفقهية المتفق عليها في هذا المقام بين علماء القواعد الفقهية قاعدة «تصرف الحاكم على الرعية منوط بالمصلحة»، وقد عدها كثير منهم ضمن القواعد الكلية، وذكرها الشيخ أحمد الزرقا، وقال: التصرف على الرعية منوط بالمصلحة؛ أي: إن نفاذ تصرف الراعي على الرعية ولزومه عليهم شاؤوا أو أبوا معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه، دينية كانت أو دنيوية، فإن تضمن منفعة ما وجب عليهم تنفيذه، وإلا رد، لأن الراعي ناظر، وتصرفه حينئذ متردد بين الضرر والعبث وكلاهما ليس من النظر في شيء.
والمراد بالراعي: كل من ولي أمراً من أمور العامة، عاماً كان كالسلطان الأعظم، أو خاصاً كمن دونه من العمال، فإن نفاذ تصرفات كل منهم على العامة مترتب على وجود المنفعة في ضمنها، لأنه مأمور من قبل الشارع (صلى الله عليه وسلم) أن يحوطهم بالنصح، ومتوعد من قبله على ترك ذلك بأعظم وعيد، ولفظ الحديث أو معناه: «من ولي من أمور هذه الأمة عملاً فلم يحطها بنصح لم يرح رائحة الجنة «(1).
وللدكتور محمد الزحيلي كلام مهم في شرح هذه القاعدة؛ إذ يقول: “وهذه القاعدة ترسم حدود الإدارات العامة والسياسة الشرعية في سلطان الولاة وتصرفاتهم على الرعية، فتفيد أن أعمال الولاة النافذة على الرعية يجب أن تبنى على المصلحة للجماعة وخيرها، لأن الولاة من الخليفة فمن دونه ليسوا عمالاً لأنفسهم، وإنما هم وكلاء عن الأمة في القيام بأصلح التدابير لإقامة العدل، ودفع الظلم، وصيانة الحقوق والأخلاق، وضبط الأمن، ونشر العلم، وتطهير المجتمع من الفساد، وتحقيق كل خير للأمة بأفضل الوسائل، مما يعبر عنه بالمصلحة العامة، فكل عمل أو تصرف من الولاة على خلاف هذه المصلحة مما يقصد به استثمار أو استبداد، أو يؤدي إلى ضرر أو فساد، هو غير جائز”.
ثم يبين الزحيلي أصول هذه القاعدة فيقول: والأصل في هذه القاعدة قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية، يموت وهو غاش رعيته، إلا حرم الله تعالى عليه الجنة” (رواه البخاري ومسلم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لم يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه، إلا لم يدخل معهم الجنة” (رواه مسلم والطبراني)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “من استعمل رجلاً من عصابة، وفيهم من هو أرضى لله منه، فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين” (رواه الحاكم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” (رواه أحمد والحاكم).
ونص على هذه القاعدة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وقال: “منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم”، وأصل ذلك ما أخرجه سعيد بن منصور في “سننه”، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: “أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، وإن أيسرت رددته، فإن استغنيت استعففت”(2).
أما الشيخ محمد صدقي البورنو، فقال في كتابه الذي استخلصه من موسوعته في القواعد: إن تصرف الإمام وكل من ولي شيئاً من أمور المسلمين يجب أن يكون مبنياً ومعلقاً ومقصوداً به المصلحة العامة، أي بما فيه نفع لعموم من تحت يدهم، وما لم يكن كذلك لم يكن صحيحاً ولا نافذاً شرعاً.
فهذه القاعدة تضبط الحدود التي يتصرف في نطاقها كل من ولي شيئاً من أمور العامة من إمام أو والٍ أو أمير أو وقاض أو موظف، وتفيد أن أعمال هؤلاء وأمثالهم وتصرفاتهم لكي تنفذ على الرعية وتكون ملزمة لها يجب أن تكون مبنية على مصلحة الجماعة وخيرها؛ لأن الولاة والعمال والأمراء والقضاة والقادة وغيرهم ليسوا عمالاً لأنفسهم، إنما هم وكلاء على الأمة في القيام بشؤونها، فعليهم أن يراعوا خير التدابير لإقامة العدل وإزالة الظلم وإحقاق الحق وصيانة الأخلاق وتطهير المجتمع من الفساد، ونشر العلم ومحاربة الجهل، والحرص على الأموال العامة ورعايتها وإنفاقها فقط فيما يعود على الأمة بالخير والنفع، كما لا يجوز لهم أن يحابوا بها أحداً دون أحد لجاه أو لسلطان أو رغبة أو طمع، لأنه لا يجوز للوالي أن يأخذ درهماً من أموال الناس إلا بحق، كما لا يجوز له أن يضعه إلا في يد تستحق، كما لا يجوز له كذلك أن يأخذ من مال أحد شيئاً إلا بحق ثابت معروف(3).
فهذه القاعدة لو حكّمناها في ممارسات أي نظام سياسي سواء في الابتداء أو الأثناء أو الانتهاء لأقمنا بها وحدها حكماً سياسياً رشيداً، وسياسة شرعية متكاملة، تراعي نصوص الشارع، وتسعى لتحقيق مقاصدها، وتضبط ممارسات الحاكم وكذلك تصرفات الشعوب.
التدرج منهجاً لتطبيق الأحكام وتحقيق مقاصدها:
ومن الأمور المهمة التي يناط بها رشادة الحكم، وإقامة نظام إسلامي حقيقي، وتحقيق مقاصد الشريعة؛ انتهاج التدرج في تطبيق الأحكام الشرعية من خلال مؤسسات الأمة التي يناط بها ذلك بدراسات يقوم بها الفقهاء والخبراء.
ذلك، أن الخطأ في توقيت تطبيق الحكم لا يقل خطورة عن إهمال الحكم وتعطيله بالكلية، سواء من ناحية الديانة، أو من ناحية ترتب المفاسد عليه مما يتناقض مع تحقيق مقاصد الشريعة ويعمل على تعطيلها، أو من ناحية المثوبة والعقوبة أمام الله في الآخرة.
والتدرج في تطبيق الأحكام فرع التدرج في تشريعها، كما أن التدرج في التشريع وإنزال الشرائع فرع عن التدرج في خلق هذا الكون، ولا يعني تأخير تطبيق حكم من الأحكام عدم الإيمان به أو التشكيك في جدواه، أو نقصان الشريعة، وإنما يعني أن الواقع لم يتهيأ بعد لاستقبال واحتضان هذا الحكم.
من أجل هذا أورد ابن عبد الحكم في «سيرة عمر بن عبدالعزيز» قوله تحت عنوان «عذر عمر فِي تَأْخِير بعض الْأُمُور»، قَالَ: لما ولي عمر بن عبدالْعَزِيز قَالَ لَهُ ابْنه عبد الْملك: إِنِّي لأرَاك يَا أبتاه قد أخرت أموراً كَثِيرَة كنت أحسبك لَو وليت سَاعَة من النَّهَار عجلتها، ولوددت أَنَّك قد فعلت ذَلِك وَلَو فارت بِي وَبِك الْقُدُور، قَالَ لَهُ عمر: أَي بني إِنَّك على حسن قسم الله لَك وفيك بعض رَأْي أهل الحداثة، وَالله مَا أَسْتَطِيع أَن أخرج لَهُم شَيْئاً من الدّين إِلَّا وَمَعَهُ طرف من الدُّنْيَا أستلين بِهِ قُلُوبهم خوفاً أَن ينخرق عَليّ مِنْهُم مَا لَا طَاقَة لي بِهِ(4).
وذكر الشاطبي هذا الأثر في «الموافقات» ليستدل به على هذا المعنى، فقال: ربما تفاوت الأمر فيها بحسب قدرة المكلف على الدوام فيما دخل فيه وعدم قدرته، فمن لا يقدر على الوفاء بمرتبة من مراتبه لم يؤمر بها، بل بما هو دونها، ومن كان قادراً على ذلك كان مطلوباً، فلهذا المعنى بعينه وضعت العمليات على وجه لا تخرج المكلف إلى مشقة يمل بسببها، أو إلى تعطيل عاداته التي يقوم بها صلاح دنياه، ومن هنا كان نزول القرآن نجوماً في عشرين سنة، ووردت الأحكام التكليفية فيها شيئاً فشيئاً، ولم تنزل دفعة واحدة، وذلك لئلا تنفر عنها النفوس دفعة واحدة.
وفيما يحكى عن عمر بن عبدالعزيز أن ابنه عبدالملك قال له: «ما لك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق»، قال له عمر: «لا تعجل يا بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة».
قال: وهذا معنى صحيح معتبر في الاستقراء العادي، فكان ما كان أجرى بالمصلحة وأجرى على جهة التأنيس، وكان أكثرها على أسباب واقعة، فكانت أوقع في النفوس حين صارت تنزل بحسب الوقائع، وكانت أقرب إلى التأنيس حين كانت تنزل حكماً حكماً وجزئية جزئية؛ لأنها إذا نزلت كذلك، لم ينزل حكم إلا والذي قبله قد صار عادة، واستأنست به نفس المكلف الصائم عن التكليف وعن العلم به رأساً، فإذا نزل الثاني كانت النفس أقرب للانقياد له(5).
ومن المعلوم أن الحكم الشرعي نوعان: حكم تكليفي، وحكم وضعي، فالحكم التكليفي هو: الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح، والحكم الوضعي يتضمن السبب والشرط والمانع والصحة والفساد أو البطلان والعزيمة والرخصة.
وإذا أردنا تطبيق حكم شرعي وتنزيله على الأرض فلا بد من تهيئة الحكم الوضعي أولاً، بإيجاد الأسباب وتوفير الشروط وانتفاء الموانع، وإذا لم يتحقق الحكم الوضعي فسوف يظل الحكم التكليفي معلقاً في الهواء لا يجد أرضاً مناسبة ينزل عليها لحين تهيئة الأرض لاستقباله واحتضانه.
بل قد تتوافر الأرضية الصحيحة لتطبيق الحكم التكليفي بتوافر الحكم الوضعي ويمنع تطبيقه لما يترتب عليه من مفاسد تربو على المصالح المحققة من تطبيقه، ولفقهائنا كلام طويل في ذلك نكتفي منه بنص للإمام ابن تيمية يرحمه الله، يقول: «خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطاباً مطلقاً كقوله: والسارق والسارقة فاقطعوا، وقوله: الزانية والزاني فاجلدوا، وقوله: والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم، وكذلك قوله: ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً، لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادراً عليه، والعاجزون لا يجب عليهم، وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد، بل هو نوع من الجهاد..»، إلى أن قال رحمه الله: «والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه، فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه»(6).
ولهذا التدرج صلة وثيقة بتحقيق مقاصد الشريعة؛ إذ الاستعجال في التطبيق دون رعاية الحكم الوضعي بتهيئة البيئة والأرضية التي سيتنزل عليها الحكم يؤدي يقيناً إلى تدمير مقاصد الشريعة؛ حيث سينزل الحكم التكليفي على غير محل، ومن ثم لن يحقق المقاصد من خلال تنزيل صحيح.
وهذا يحتاج إلى رعاية حال المجتمع، وحال الناس، في ضوء المرحلة التي يمر بها الجميع وتحملها لأحكام الشريعة، وتهيئة ذلك كله بما يجعل الأحكام التكليفية تتنزل في مناطاتها الصحيحة، وهذا وحده هو الطريق الصحيح لتحقيق مقاصد الأحكام الشرعية.
إننا بحاجة إلى نظام سياسي يحقق مقاصد الشريعة، وإلى فقه صحيح لمقاصد الشريعة الإسلامية نفسها من خلال أحكامها، ومن خلال مراحل تاريخنا العظيم الذي استصحب هذا الفكر سواء مراحله التي شهدت استدعاء عادياً لا يلفت النظر، أو المراحل التي استنجدت بفكر المقاصد وفقهها بشكل مكثف في فترات إرادة النهضة ومقاومة المحتلين، وصد طعنات أعداء الإسلام في عقيدته وشريعته وحفظ هوية الأمة وعقيدتها وشريعتها وتاريخها وحضارتها.
* أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية
الهوامش
(1) شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا: 309. دار القلم – دمشق / سورية. الطبعة الثانية، 1409هـ – 1989م.
(2) القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة للدكتور محمد الزحيلي: 1/ 493-493. دار الفكر – دمشق. الطبعة الأولى. 1427هـ – 2006م.
(3) الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية للبورنو: 347-349. مؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان. الطبعة الرابعة، 1416هـ – 1996م.
(4) سيرة عمر بن عبدالعزيز لابن عبد الحكم: 57. تحقيق: أحمد عبيد. عالم الكتب – بيروت – لبنان الطبعة السادسة، 1404هـ – 1984مـ.
(5) الموافقات: 2/ 148-149. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى. 1417هـ/ 1997م.
(6) مجموع الفتاوى: 34/ 175-176. تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم. نشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. المدينة النبوية. 1416هـ/1995م.