مستعمرة فرنسية اختيرت موطناً للإبعاد القسري لمعاقبة المنتفضين ضد الاستعمار الفرنسي لبلادهم
ترحيل الجزائريين دفعهم للزواج بفرنسيات وإجبارهم على تسمية أطفالهم بالأسماء المسيحية للحصول على الحقوق المدنية
جزائريو المحيط الهادئ، أو جزائريو كاليدونيا الجديدة، هم مجموعة من الجزائريين والجزائريات من العرب والقبائليين (مع قلة من التونسيين والمغاربة) هجرتهم سلطات الاحتلال الفرنسي قسراً من بلادهم إلى معسكرات في جزيرة كاليدونيا الجديدة، بعد اشتراكهم في عدة انتفاضات ضد الاستعمار الفرنسي لبلادهم، كان أبرزها انتفاضة عامي 1870 و1871م.
في الثامن من مايو 1870م، وقف البطل الجزائري الشيخ الحداد، أمام جمع غفير في سوقٍ، رافعاً عصاه ومخاطباً أنصاره: «سنرمي فرنسا كما أرمي عصاي» ورمى عصاه في السماء، ليعلن رسمياً الجهاد ضد المستعمر الفرنسي، واضعاً حجر الأساس لواحدة من أكبر بطولات ومقاومات التاريخ الحديث، إنّها ثورة المقراني، والشيخ الحداد، لتندلع بعدها فصول الشجاعة والرجولة والدفاع عن الجزائر في وجه المستعمر، مقاومة امتدت من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، مُكبّدة المحتل الفرنسي خسائر فادحة، وتراجعاً رهيباً، إذ وصل به الأمر إلى فقدان بعض المدن وتحريرها من طرف المجاهدين الجزائريين تحت قيادة الشيخ المقراني، والحداد، إلى أن تمكنت فرنسا من قتل القائد الشيخ المقراني، لتبدأ الملحمة في الانحسار، انحسار تحول بعدها إلى تراجع وانهزام، وكعادة الاستعمار الفرنسي، حان وقت العقاب.
كاليدونيا.. ومأساة الجزائريين
كاليدونيا الجديدة مستعمرة فرنسية منذ عام 1853م، وعاصمتها نوميا، اختيرت كاليدونيا الجديدة موطناً للإبعاد والنقل القسري؛ لأن المستعمرة كانت تحتوي على إدارة مؤسسة عقابية، ولاستحالة الفرار من الجزيرة.
تقع كاليدونيا الجديدة في قارة أوقيانوسيا جنوب المحيط الهادئ، تبلغ مساحتها 19 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ عدد سكانها اليوم 250 ألفاً، من بينهم 20 ألفاً من أحفاد الجزائريين، تبعد عن الجزائر العاصمة نحو 22 ألف كيلومتر، ارتبط اسم كاليدونيا الجزيرة بمستعمرة المنفيين؛ إذ كانت فرنسا، وقتها، تجعل من البلد سجناً تعاقب به مستعمراتها من جهة، ومن جهة أخرى تستعبد هؤلاء حتى يعمروا هذه المستعمرة الجديدة، التي جعلتها باريس محافظة فرنسية تابعة للعاصمة الفرنسية.
لم تصمد مقاومة المقراني، والحداد كثيراً، فبعد شهرين من القتال والبطولات عام 1871م استشهد الشيخ المقراني، واعتقل الشيخ محمد أمزيان الحداد، ليعذب حتى استشهاده، وقرّر المستعمر الفرنسي أن يعاقب الجميع حتى لا تتكرر انتفاضة هذا الشعب، فأقام إعدامات ميدانية، وفرض ضرائب باهظة، وجرَّد الأهالي من السلاح، وابتكر أخطر عقوبة؛ إمعاناً في الانتقام الشديد ممَّن حمل السلاح ضده، وهي نفي أكثر من 2000 جزائري من بينهم قيادات في المقاومة الجزائرية آنذاك إلى جزيرة كاليدونيا الجديدة التي تحتلّها جنوب المحيط الهادئ.
نُقل جميع القادة، يتقدمهم أبو مزراق المقراني، شقيق القائد الشهيد الشيخ المقراني، ومحمد، وعزيز، نجلا الشهيد القائد الشيخ الحداد، رفقة أكثر من 2000 مقاتل ومقاوم، من ميناء وهران إلى ميناء طولون بفرنسا، ليكملوا طريق الموت والعذاب نحو النفي إلى المجهول، بدءاً من يونيو 1873م، وتشير الإحصاءات غير الرسمية إلى أن فرنسا نفت ما يقارب 2106 جزائريين إلى كاليدونيا الجديدة حتى نهاية القرن التاسع عشر.
سعت فرنسا إلى إنشاء عمران غربيّ في كاليدونيا، فرأت في سواعد الجزائريين المقهورين أحسن أداة لتشييد هذا المشروع، فقضى الجزائريون المنفيون عقوبة مقاومتهم للمستعمر بأعنف صورة؛ إذ تم استغلالهم بصورة غير إنسانية في العمران وخدمة المعمرين، إذ يحكي أحد أحفاد الجزائريين المنفيين في ذاكرة جدّه أن المعمرين الفرنسيين كانوا يضعون الجزائريّ كرهان فوز في القمار، إذ إنّ الرابح يأمر الجزائري بخلع ثيابه والنزول في حفرة لا يظهر منها إلا رأسه، ثم يتعلمون في رأسه الرماية! هذا قليل مما رُوي.
إضافة إلى الاجتثاث الذي تعرض له هؤلاء المهجرون إلى كاليدونيا الجديدة بإبعادهم عن أهلهم ووطنهم وأصولهم، وظهرت نتائج هذا الاجتثاث أكثر على الأجيال المنحدرة عن هؤلاء المنفيين، الذين بدؤوا بالابتعاد عن ثقافة آبائهم وأجدادهم جيلاً بعد جيل، ومنه أصبح الخطر يتهدد مصير الهوية الجزائرية لتلك الأقلية المنسية في أقصى المحيط الهادئ.
النفي إلى المجهول
وكانت رحلة وصولهم إلى مستعمرة الموت من قسنطينة إلى وهران، ومن وهران إلى طولون، ومنها إلى كاليدونيا الجديدة في رحلة النفي إلى المجهول، كان زادهم في الرحلة التمر والماء اللذين لم يكفيا المنفيين خلال الرحلة، فكان خيارهم إما طعام البحارة من لحوم الخنازير، أو الموت جوعاً، ولكنهم اختاروا الجوع بدل أكل ما حرّم الله، ليموت فعلاً بعض منهم جوعاً، ليكتب الله وصول من سلّم في الطريق إلى كاليدونيا.
في 22 أغسطس 1895م، لم تُغادر سوى أقلية من الجزائريين مدينة «نوميا» باتجاه الوطن، ذلك أن العفو لم يشمل المنفيين من غير السياسيين؛ لذلك كانوا مجبرين على البقاء، وقد دوّن التاريخ ارتكاب أفظع الجرائم في حق هؤلاء، نظراً لضرورة التقليل من عدد السكان غير الأصليين آنذاك.
علاوة على ذلك، واجه المُرحَّلون مشكلة الاستعمار، فقد كان السكان الأصليون للجزيرة يرون فرنسا مستعمرة ومحتلة لأراضيهم؛ فاندلعت ثورة «الكاناك» عام 1878م، وتعليقاً على ذلك، نشرت صحيفة «لوموند» الفرنسية أنه «لإخماد هذه الثورة، تم اعتقال أشخاص عديدين والزج بهم في سجن قريب من تلك المنطقة».
وذكر السيد طلاش، أمين عام جمعية «المنسيون في التاريخ» بذراع الميزان، أن فرنسا نقلت إلى كاليدونيا الجديدة بداية من عام 1865م ما يقارب 1820 جزائرياً كأيد عاملة لخدمة مستعمرتها الجديدة، وما بين 198 و213 سجيناً سياسياً، أُبعدوا قسراً بعد ثورة المقراني، والشيخ الحداد، حيث توفي بعضهم من مشقة السفر.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، استفاد هؤلاء من حرية نسبية، واستلموا أراضي زراعية لزراعتها، وأُثقلوا بالضرائب، لكنهم جعلوا الحياة تدب في هذه الأراضي القاحلة، وكانوا أول من نقل زراعة النخيل، والحمضيات، وأشجار التين، وكذا تربية الماعز وصناعة الجبن، ونقلوا الحضارة إلى مجتمع «الكاناك» (السكان الأصليون الميلانيزيون لكاليدونيا الجديدة)، إلا أن ترحيل الرجال من دون النساء، واضطرار المنفيين إلى تأسيس عائلات في المنفى الذي أصبح مأوى أبدياً؛ دفعهم للزواج بنساء فرنسيات، وأجبرتهم فرنسا على تسمية أطفالهم بأسماء مسيحية للحصول على الحقوق المدنية؛ ما جعل الهوية الجزائرية تضمحل تدريجياً، وتنصهر في المجتمع المختلط الذي عجز فيه الرجال عن احتفاظهم بالثقافة والهوية الجزائرية، مكتفين بحفظ النسل، وحتى اللغة والدين أخذا بالاختفاء مع مرور الزمن، لمنع الفرنسيين من إنجاز أي معْلَم إسلامي قد يبقي ارتباط هؤلاء بالوطن الأم.
أول مسجد
في ثمانينيات القرن الماضي، شارك الصديق التاوتي، نائب رئيس البنك الإسلامي بجدة آنذاك، في ندوة دولية نظمها مسلمو كاليدونيا، وخلالها طالبه مسلم أسترالي، كونه مهتماً بالأقليات المسلمة في العالم، أن يساعد عرباً منحدرين من المغرب العربي في معرفة هويتهم وأصولهم، وقد تبنى هذا الرجل قضية هؤلاء، وتكفلت المملكة العربية السعودية ببناء مسجد في «نوميا» عاصمة كاليدونيا الجديدة، في حين دشن البنك الإسلامي للتنمية في نهاية التسعينيات مسجداً ومركزاً ثقافياً بـ«بوراي» حيث يقطن أغلب جزائريي كاليدونيا.
وحالياً، تتمثل أبرز الآثار التي تدل على التواجد العربي في كاليدونيا الجديدة، في الأسماء والألقاب والمقبرة الإسلامية في نيساديو التي أنشئت عام 1896م، فضلاً عن مركز ديني وهلال متواجد على شعار بلدية بورايل، كما حُفر هذا الحضور في ذاكرة يُحييها تنظيم بعض الرحلات إلى أرض الأجداد؛ الجزائر.
واليوم ينادي عدد من الحقوقيين بضرورة إعطاء هؤلاء حقهم في الهوية، وإعادة مد جسور التواصل بينهم، والأصل الذي جُرّدوا منه قبل قرن ونصف قرن من الزمن، بعدما عاشوا مشتتين بين أرض لفظتهم قسراً، وأخرى احتضنتهم غصباً، ليعيشوا نحو خمسة أجيال كاملة في غياهب الضياع والبحث عن الهوية والانتماء.
_________________________________________
المصادر:
1 – ويكيبيديا الموسوعة الحرة.
2 – صحيفة «العربي الجديد».
3 – مجلة «المواقف الجزائرية»، المجلد 12، العدد 1.
4 – موقع «ساسة بوست».
5 – شبكة «الألوكة».
6 – موقع «نون بوست».
7 – «بوابة الشروق» الجزائرية.