لم تكن انتخابات 21 ديسمبر 2019 ثمرة حوار ونقاش واسع مع المعارضة وممثلي الحراك والمجتمع المدني، خاصة بعد حراك 11 فبراير الذي أطاح بالرئيس المخلوع عبدالعزيز بوتفليقة، وإنما جاءت بقرار فوقي من السلطة الفعلية سواء ما تعلق بتاريخها أو بإنشاء السلطة المستقلة لانتخابات بصلاحياتها، لذلك يمكن رصد ردود الفعل تجاهها كالتالي:
1- مشاركون بالرغم من تحفظ البعض حول الإجراءات والتوقيت وحتى اللجنة المستقلة (البناء).
2- مقاطعون لها (أحزاب البديل الديمقراطي وهي أحزاب علمانية).
3- لا يقاطع، ولا يشارك، ولا يدعم، وعلى رأس هؤلاء حركة “حمس”.
حجة المشاركين: حركة البناء
شعارهم “شرعية منقوصة أفضل من لا شرعية” مع مواصلة النضال من أجل تحقيق الشرعية الشعبية، لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتخلى السلطة الفعلية عن التحكم في المشهد بسهولة، وأن التغيير يأتي عبر مراحل ويأخذ وقتاً، لذلك فالحفاظ على الأمن وتبني مطالب الحراك والمشاركة في أي استحقاق حتى وإن كان مفروضاً عليك سيجلب من المصالح الشيء الكثير ويدرأ من المفاسد ما هو غالب وظاهر للعيان في كم من تجربة حولنا وفي محيطنا العربي.
بالإضافة إلى أن هناك من يريد ضرب مؤسسة الجيش وهي صمام أمان الوحدة الوطنية، بالرغم من التحفظ على بعض أعمالها وتدخلها في الشأن السياسي، ومن القرائن حول استهداف مؤسسة الجيش هو الاجتماع المشبوع الذي عقده السعيد بوتفليقة، وتوفيق رئيس المخابرات السابق وبعض الشخصيات السياسية ورجال الأعمال بحضور شخصية فرنسية.
الأمر الآخر أن هناك بالفعل من يريد إطالة الأزمة لفرض أجندته في تغيير الدستور ونزع بعض مواده مثل الإسلام دين الدولة واللغة العربية، ولمعرفة هؤلاء المسبقة أن عملهم سيكون أجدى في “وضعية التعفين”؛ لذلك كانوا حريصين على المطالبة بمرحلة انتقالية تأسيسية، ومن ثم يكون لهم ما أرادوا من تقسيم السلطة عبر الكوتة لأن الانتخابات لا تعطيهم شيئاً، وهذا كان ديدنهم منذ الاستقلال.
حجة المقاطعين (أحزاب البديل الديمقراطي العلمانية)
إنه لا بد من مرحلة تأسيسية انتقالية يمر بها البلد؛ لأن النظام دائماً ما يحاول “رسكلة” نفسه وتغيير الوجوه، لذا فإن المرحلة الانتقالية تصبح ضرورية من أجل فتح حوار ونقاش واسع يمس كل شيء بدون استثناء، من أجل الذهاب إلى مرحلة إنشاء الدولة عبر أسس ديمقراطية حقيقية، وهذا الحوار لا بد من المشاركة فيها بكل تفاصيله وألا تكون السلطة الفعلية هي من تضع أجندته.
موقف (حمس وغيرها)
إن السلطة الفعلية فرضت الانتخابات بشكل تعسفي ويفترض أن الانتخابات والتحضير لها يكون ثمرة حوار حقيقي يتم فيه الاتفاق على التوقيت، ومن يترأس اللجنة المستقلة لمراقبة الانتخابات، وتعيين اللجان وغيرها من الأمور التقنية، حتى يطمئن الجميع على نزاهة العملية من بدايتها إلى نهايتها، وهذا لم يتم.
بالإضافة إلى أنه كانت هناك أرضية حوار بدأتها المعارضة (وغابت عنها أحزاب البديل الديمقراطي) توصلت إلى خارطة طريق كان من الأولى أن الأحزاب التي شاركت فيها (وهما حزبا البناء بن قرينة، وطلائع الحريات بن فليس) ألا يشاركا في الانتخابات المفروضة، أو على الأقل يتم المشاورة فيما بين هذه الأحزاب قبل فرض الأمر الواقع على الجميع.
يوم الانتخابات
شهد يوم الاقتراع مشاركة محدودة عكستها النتائج المعلن عنها، لكنها مشاركة فعلية من الناس وربما عكست هذه الصورة رد فعل ضد من حاولوا منع الناس من التصويت عنوة في بعض المكاتب خاصة في الخارج التي بدأ فيها التصويت من يوم السبت الموافق 7 ديسمبر، وكانت بعض الصور صادمة في بعض الدول.
كما صاحب الاقتراع مظاهرات رافضة للانتخابات في عدة مدن وأكثرها كان في العاصمة الجزائر، كما أن منطقة القبائل وخاصة تيزي وزو لم تتم فيها الانتخابات بسبب المقاطعة الكلية لها، وفي بعض المدن الأخرى لكنها أقل.
فقد أظهرت هذه الانتخابات أنها لم تخرج عن إرادة السلطة الفعلية خاصة فيما يتعلق بالتغطية العالمية التي لم تعط الفرصة للمعارضين لها أي مساحة في العالم لشرح موقفهم ووجهة نظرهم، وأيضاً من خلال سلوك الإدارة والتصريحات الرسمية، فقد كان رهان السلطة ليس فيمن سيفوز بل في إنهاء العملية الانتخابية بأقل الخسائر.
المخاطــــر
تعتبر هذه أول انتخابات يقاطعها عدد كبير من المواطنين سواء في الشارع أو في عدم التصويت أو حتى ممن صوتوا بالورقة البيضاء الذين تجاوز عددهم أكثر من مليون ونصف مليون، كما أنه ولأول مرة لم تجر الانتخابات في منطقة من الجزائر، وهذا يعتبر تهديداً خطيراً لكيان الدولة في المستقبل، خاصة إذا بدأ أصحاب التأزيم والتعفين في استثمار هذا الأمر، لأنها قد تغذي نعرة التطرف والانفصال (الماك، فرحات مهني)، وهذا التصرف من السلطة يخدم هذه الحركة سواء عن قصد أو غير قصد.
كما أن عدم وجود حوار جاد بين السلطة الفعلية والمعارضة وممثلي الحراك سيزيد من تأزيم الوضع أكثر حتى بعد الانتخابات الرئاسية.
موقع الجيش والرئيس الجديد
مع انتهاء عملية الانتخابات تتهيأ الجزائر لمشهد سياسي جديد تتراجع فيه قيادة الأركان التي صاحبت الحراك بظهورها المستمر، من المشهد السياسي إتاحة المجال للرئيس الجديد ليحمل عنها عبء التصريحات والمواقف، وقد يتيح هذا الأمر فرصة فتح حوار سياسي جاد وشامل يقود لإصلاحات شاملة بداية من الدستور، للاقتصاد، للانتخابات البرلمانية فالبلدية، مع احتمال مقاطعة أحزاب البديل الديمقراطي أي حوار كنوع من الضغط على الرئيس الجديد وعدم إعطائه أي فرصة لالتقاط الأنفاس.
خاصة مع تعاظم التحديات أمام الرئيس الجديد، وفي مقدمتها التحدي الاقتصادي والخوف من الجبهة الاجتماعية.
وهذا ما سيساهم في إعادة الحرك إلى مربع التأثير من جديد بعد أن انتهى الجدل حول انتخاب الرئيس، وبكل تأكيد فإن جزائر الغد لن تكون كجزائر الأمس، خاصة مع الوعي المتعاظم لدى المتظاهرين الذين يخرجون كل جمعة، والطلبة الذين يخرجون كل ثلاثاء، والجالية الجزائرية في الخارج التي تخرج كل سبت وأحد، وهنا تظهر روح النضال المستمر والدائم.
ومع انتظار إعلان تنصيب الرئيس الجديد، وإعلانه عن أولوياته للمرحلة القادمة، تبقى أهمية مواصلة الحراك السلمي هو الضامن مع جهود المخلصين والأحزاب السياسية الفاعلة من أجل تحقيق أهداف ومطالب الحراك في الدولة المدنية بكل مقوماتها، ومنها:
1- أن يقوم بإجراءات تهدئة، وإطلاق سراح أصحاب الرأي.
2- فتح حوار شامل مع كل الطبقة السياسية بما فيها ممثلي الحراك.
3- تغيير الدستور، والانتخابات البرلمانية والبلدية في أقرب الآجال.
4- تعيين حكومة جديدة من خبراء يتولون الشأن الاقتصادي بشكل استعجالي
5- فتح ورشات إصلاح سياسي ودستوري واقتصادي واجتماعي وتربوي من أجل النهوض بالجمهورية الثانية على أسس صحيحة.
6- محاربة الفساد وضرب جذور الدولة العميقة التي تهدد الوحدة الوطنية من أجل مصالحها الضيقة.
7- فتح فضاء العالم وعدم احتكاره من طرف السلطة.
8- إصلاح مؤسسة القضاء.
الحراك متواصل
حتى بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية يوم الجمعة 23 ديسمبر 2019 الذي يصادف الجمعة الـ43، فقد خرجت جموع غفيرة في معظم ولايات الوطن منددة بإجراء الانتخابات ومن بين أبرز شعاراتها: “رئيس مزور جابوه العسكر”.
ومنهم من اعتبرها عهدة خامسة كون عبدالمجيد تبون كان ضمن الطاقم الوزاري للرئيس المخلوع بوتفليقة لغاية 2017 حتى تم تعيينه رئيساً للوزراء لأشهر قليلة ثم أطيح به لاحقاً بسبب صراع العصب.
تقييم مشاركة حركة البناء الوطني
بالرغم من معارضة الكثيرين لهذه المشاركة، فإن بن قرينة أدار حملته الانتخابية بشكل نال إعجاب الكثيرين حتى ممن عارضوه بشدة، ويذكر هنا بداية حملته ونهايتها كانتا هما الأهم، حيث بدأ حملته الانتخابية من ساحة البريد المركزي التي بدأ منها الحراك التي تحاشاها معظم المرشحين، وأنهاها بآخر تجمع في مدينة ورقلة مسقط رأسه جنوب الجزائر التي حضرها أكثر من 41 ألفاً من المواطنين.
يذكر أن تجمعاته كانت الأكثر حضوراً مقارنة مع المرشحين الأربعة الآخرين، كما أتاحت له هذه الانتخابات فرصة حضوره المستمر في وسائل العالم المحلية وبعض الأحيان الدولية، كما قدم برنامجاً جيداً وصريحاً، بالإضافة إلى أن هذه الفرصة فتحت له أبواب لقاءات مع دبلوماسيين بطلب منهم لما رأوه من نجاح في حملته الانتخابية، فقد التقى سفراء كل من: هولندا، ألمانيا، الولايات المتحدة، السعودية، بلجيكا.
كان حزبه هو الرابح الوحيد في هذه المعركة الانتخابية، لذلك فقد صرح يوم 13 ديسمبر أن حزبه هو القوة الأولى في البلاد، ذلك لأن عبدالمجيد تبون الفائز في الانتخابات ترشح حراً ولم يشأ أن يترشح باسم حزب جبهة التحرير الوطني.
يذكر هنا أن حزبي الموالاة في عهد بوتفليقة وهما جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي قد دعما المرشح عزالدين ميهوبي الذي حصل على المرتبة الرابعة بنسبة 7% وهذه تعتبر خسارة كبيرة لهما.
وحزبا بن فليس (طلائع الحريات) صاحب المركز الثالث، وعبدالعزيز بلعيد صاحب المركز الخامس، هما حزبان صغيران ليسا لهما وجود في معظم الولايات.
ففي ظني أن بن قرينة هو الرابح في هذه الانتخابات لعدة أسباب، منها:
1- تموقع حزبه في الخارطة السياسية الجديدة.
2- فرصة خروجه للناس في كامل التراب الوطني والاحتكاك بهم ومعرفة برنامجه السياسي عن قرب.
3- التجربة المكتسبة في الحملة الانتخابية والتعلم من الأخطاء.
4- تكريس التعددية بشكل عملي، حتى وإن شابت الانتخابات نقائص كثيرة.
5- ضمان الاستقرار، ومن ثم مواصلة النضال من الموقع الجديد بما يمتلكه من وعاء انتخابي يقدر بأكثر من مليون ونصف مليون انتخب له.
6- طلب من حزبه إعفاءه من رئاسة الحزب وقدم استقالته كونه خسر الانتخابات الرئاسية، وهذه سابقة أخرى إيجابية تحسب له.
7- تموقع حركة البناء في الساحة السياسية تمهيدًا لمرحلة ما بعد الانتخابات كقوة أولى في البالد كما ذكر ذلك بن قرينة في تصريحه عقب نتائج الانتخابات.
الخسائر
ينظر إليه البعض أنه ارتمى في أحضان السلطة، وأنه دعم أجندتها في إعادة “رسكلة” النظام بوجوه جديد، وأنه هو وحزبه انقلبا على الحراك وعلى أرضية عين البنيان بقبوله المشاركة في الانتخابات التي فرضتها السلطة بأجندتها.