لم يكن متوقعًا أن يُمنى اللواء المتقاعد خليفة حفتر بهزائم ساحقة في غرب العاصمة الليبية طرابلس، وتنهار مليشياته في 6 مدن ومنطقتين إستراتيجيتين، خلال ساعات فقط يوم الإثنين الماضي، مما يعكس هشاشة مليشياته، التي انكشف ضعفها بمجرد غياب الغطاء الجوي عنها.
فباستثناء مقاومة محدودة في بداية الهجوم بمدينة صرمان (60 كلم شرق طرابلس)، سرعان ما انهارت دفاعات مليشيات حفتر، وتوارت عناصرها بين المنازل، ولم تتحمل الغارات التي شنها طيران حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها دوليًا، على مواقعها خاصة في صرمان وصبراتة، رغم امتلاكها أسلحة ثقيلة ومتوسطة تمكنها من صد جيش بأكمله ولعدة أسابيع.
وكان واضحًا قلة التنظيم والتنسيق بين مليشيات حفتر في مختلف مدن غرب طرابلس، وعدم وجود نقطة دفاع قوية يمكن الاحتماء بها عند الانسحاب، باستثناء قاعدة الوطية الجوية (140 كلم جنوب شرق طرابلس)، البعيدة عن ميدان المعارك.
كما تفتقد هذه المناطق لمنصات دفاع جوي مثلما هو موجود في مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، مما جعلها تحت رحمة طيران الوفاق.
وحتى قاعدة الوطية الجوية تم تحييدها بعد اقتحام قوات الوفاق لها، في 25 مارس الماضي، وأسرها 27 من عناصر المليشيات، تلى ذلك سلسلة متواصلة من غارات طيران الوفاق عليها، مما شلّ حركتها بشكل كبير، خاصة بعد تدمير 3 طائرات سوخوي22، وإسقاط طائرة مسيرة جنوب مدينة العجيلات (80 كلم غرب طرابلس)، مما جعل الشريط الساحلي غرب طرابلس، على طول 170 كلم وعمق أكثر من 30 كلم، محرمًا على طيران حفتر، وهو ما أفقده نقطة تفوقه الرئيسة في معارك سابقة.
كما أن هجوم قوات الوفاق، صباح الإثنين، على مواقع مليشيات حفتر في صرمان وصبراتة كان مباغتًا، وسبقه 16 غارة دقيقة لطائرات مسيرة.
فهذه هي المرة الأولى، منذ بداية عدوان حفتر على طرابلس في 4 أبريل 2019، التي تهاجم فيها قوات الوفاق المدينتين اللتين خرجتا عن سيطرتها حينها، رغم انكشاف هذا المحور في أول يوم إثر أسر قوات الوفاق 128 عنصرًا من مليشيات حفتر والسيطرة على 40 آلية مسلحة.
وبينما ألقت مليشيات حفتر بكامل ثقلها في الهجوم على الأحياء الجنوبية للعاصمة، تركت مدن غرب طرابلس من دون تحصينات كافية ولا خطة دفاعية فعالة لصد أي هجوم.
ويتضح ذلك من خلال إعلان مليشيات حفتر، بعد تعرض قاعدة الوطية للهجوم، أنها سيطرت على مدن العجيلات والجميل ورقدالين، رغم أن هذه المدن كانت أصلًا ضمن دائرة نفوذها، مما يعني أن مليشيات حفتر لم تكن أصلًا متواجدة عسكريًا في تلك المدن، التي لا تسيطر عليها قوات الوفاق، وهذا يكشف أحد أسرار سقوط مدن عديدة بسرعة، وبعضها فتحت أبوابها من دون قتال.
كما كشف هجوم الإثنين أن حفتر لا يملك حاضنة شعبية في مدن غرب طرابلس، على عكس ادعاء أنصاره، وهو ما ظهر في الاحتفالات التي خرجت في مدن انسحبت منها مليشياته، مما يعكس تآكل شعبيته حتى في مناطق نفوذه السابقة.
ومن مظاهر فقدانه لهذه الشعبية، قيام أنصار حفتر بقطع صادرات النفط ومياه النهر الصناعي والكهرباء عن مدن غربي ليبيا، من دون أن يفعل شيئًا لردعهم، رغم تضرر مدن خاضعة له من هذه الأوضاع، ناهيك عن عدم التزامه بهدنة “كورونا”، ولا مبالاته بحياة الناس، وفشله طيلة عام كامل في حسم معركة طرابلس، مما زاد أوضاع الناس تأزمًا ويأسًا.
فحفتر يتبع “سياسة الأرض المحروقة”، التي طبقتها الكاهنة “ديهيا”، ملكة البربر، عام 693م، عندما أحرقت المحاصيل والأشجار والقلاع في المناطق التي كانت تحكمها من طرابلس شرقًا إلى سواحل المحيط الأطلسي غربًا، حتى لا يستهدف الفاتحون المسلمون أرضها، وكانت النتيجة أن سكان المملكة كرهوها، كما انهزم جيشها واندثر حكمها.
فحفتر لم يكن مباليًا بسكان غرب طرابلس، بدليل عدم سعيه إلى تحرير أسراهم لدى قوات الوفاق، وغالبيتهم من الشباب اليافع، الذين تم إغراؤهم بالمال.
وعلى ما يبدو بدأ حفتر يعاني من نقص السيولة المالية، بعد تقليص حكومة الوفاق تحويل المخصصات المالية للمنطقتين الشرقية والجنوبية، اللتين يسيطر عليهما؛ بسبب تراجع مداخيل النفط بعد إغلاقه حقول وموانئ النفط، إضافة إلى أن الداعمين الماليين له، يعانون من انهيار أسعار النفط، وتكاليف مكافحة “كورونا”، التي تستنزف احتياطاتهم المالية، مما يجعله في آخر أولوياتهم.
وستزيد هزيمة حفتر النكراء في منطقة غرب طرابلس من عزلة قاعدة الوطية الجوية، وقد تعيد قوات الوفاق اقتحامها أو حصارها، مما يحرم أنصار حفتر في منطقة الجبل الغربي من غرفة عملياتهم الرئيسة، ويعمق من عزلتهم.
كما أن هجوم الإثنين أنقذ مدينة زوارة (100 كلم غرب طرابلس) ومعبر راس جدير الحدودي مع تونس (170 كلم غرب طرابلس) من السقوط بيد مليشيات حفتر، التي كانت تحشد لاقتحام المنطقة والقضاء على آخر جيوب قوات الوفاق على الطريق الساحلي حتى مدينة الزاوية (50 كلم غرب طرابلس)، لكن ما حدث هو العكس تمامًا، إذ أصبحت قوات الوفاق تسيطر على كامل هذا الشريط الساحلي بلا استثناء.
والأنظار مركزة حاليًا على ترهونة، فبعد إنهاء سيطرة حفتر على جميع مدن غلاف طرابلس (صرمان وصبراتة وغريان) باستثنائها (ترهونة)، أصبحت الأولوية هي السيطرة عليها أو على الأقل تحييدها، خاصة أن اللواء التاسع ترهونة يشكل أكبر خطر على طرابلس بعد مرتزقة شركة “فاغنر” الروسية.
لكن قوات الوفاق تواجه مشكلة عويصة في ترهونة، وهي منظومة الدفاع الجوي “بانتسير”، التي يشرف عليها مرتزقة “فاغنر”، وكذا عمليات التشويش ضد الطائرات المسيرة، مما يصعب عملية اقتحام آخر مدن الارتكاز، التي تنطلق منها مليشيات حفتر نحو طرابلس.
لكن وبحسب رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري، فإن انتفاضة من داخل ترهونة نفسها ستحسم الأمر.
بعد الانتصار في معارك غرب طرابلس، وتثبيت محاور القتال جنوبي العاصمة، ستركز طائرات الوفاق على استهداف خطوط الإمداد ما بين قاعدة الجفرة الجوية (650 كلم جنوب شرق طرابلس) وحتى ترهونة، خصوصًا وأن مليشيات حفتر تستخدم ذخيرتها بكثافة مما قد يستنزفها مستقبلًا، في ظل تردد سائقي الشاحنات في نقل إمدادات الوقود والذخيرة والسلاح إلى ترهونة؛ بسبب هيمنة طيران الوفاق على سماء المنطقة.
وفي ظل امتلاك قوات الوفاق السيادة على سماء المنطقة الغربية، يمكن لكتائب مدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس) القيام بهجوم مباغت على قاعدة الجفرة، مما سيضع مليشيات حفتر في المنطقة الغربية تحت حصار حقيقي، خاصة إذا تم تحييد مطار مدينة بني وليد (180 كلم جنوب شرق طرابلس) المدني، الذي تستخدمه مليشيات حفتر لنقل الإمدادات والمرتزقة.
والأكيد أن خسارة حفتر لمنطقة غرب طرابلس أثرت بشكل كبير على معنويات العناصر الموالية له، وقد تدفع البعض منهم إما إلى الانسحاب من المعركة مثلما فعل كثيرون، أو الانحياز لقوات الوفاق، التي بدأت تظهر تباشير حسمها للحرب، وقد تحاول مدن أخرى التفاوض لعدم اقتحامها مقابل التبرؤ من حفتر وأعماله.
أما جبهات القتال في المحاور الجنوبية لطرابلس، فستلعب قوات الوفاق البرية، وخاصة المدفعية، الدور الأبرز فيها بالنظر إلى لجوء الطرفين للتشويش على الطائرات المسيرة، مما يصعب استخدامها في المعارك.
وإذ استطاعت حكومة الوفاق استثمار انتصاراتها على الأرض من خلال تحرك دبلوماسي وإعلامي قوي عربيًا ودوليًا، فقد يدفع ذلك دولاً عدة إلى تغيير مواقفها، والتخلي عن المشروع الفاشل الذي يقوده حفتر، خاصة في ظل توقع توالي سقوط المدن التابعة له مثل قطع الدومينو.