لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على أمته؛ لتكون عزيزة منيعة محققة لتوحيد الله عز وجل، مجانبة لكل الوسائل والأسباب المفضية لما يضاده ويناقضه، قال الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128).
ولكي يُبعد المسلم نفسه عن مظاهر الانحراف فلا بد أن ينتبه لنفسه عندما يتعامل مع الأمور التالية:
الرقية
الرقية هي القراءة والنفث طلباً للشفاء والعافية وتكون بالقرآن الكريم أو بالأدعية المأثورة
الرقية: هي القراءة والنفث طلباً للشفاء والعافية، سواء كانت من القرآن الكريم أو من الأدعية النبوية المأثورة، وهي جائزة بالأدلة التالية:
– عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: “كنا نرقي في الجاهلية فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك”(1).
– وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة”(2).
– وعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال: “أذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما”(3).
الرقية محرمة وممنوعة إذا اعتقد الراقي أو المرقي أنها تنفع وتؤثر بذاتها
ولكي تكون الرقية في إطارها الشرعي يجب أن تتوفر فيها شروط ثلاثة:
الأول: ألا يعتقد المسلم أنها تنفع لذاتها دون الله، فإن اعتقد أنها تنفع بذاتها من دون الله فهو محرم، بل هو شرك.
الثاني: ألا تكون بما يخالف الشرع كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله أو استغاثة بالجن وما أشبه ذلك، فإن ذلك شرك.
الثالث: أن تكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة فإنها لا تجوز.
وقد سئل الإمام مالك رحمه الله: أيرقي الرجل ويسترقي؟ فقال: “لا بأس بذلك، بالكلام الطيب”، وكل رقية لم تتوفر فيها الشروط المتقدمة فإنها محرمة ممنوعة، كأن يعتقد الراقي أو المرقي أنها تنفع وتؤثر بذاتها، أو تكون مشتملة على ألفاظ شركية وتوسلات كفرية وألفاظ بدعية، ونحو ذلك، أو تكون بألفاظ غير مفهومة كالطلاسم ونحوها.
التميمة هي ما يُعلق على العنق وغيره من تعويذات لجلب نفع أو دفع ضر
التمائم
التميمة: هي ما يعلق على العنق وغيره من تعويذات أو خرزات أو عظام أو نحوها لجلب نفع أو دفع ضر، وكان العرب في الجاهلية يعلقونها على أولادهم يتقون بها العين بزعمهم الباطل، وهي نوع من أنواع الشرك؛ لما فيها من التعلق بغير الله؛ إذ لا دافع إلا الله، ولا يُطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الرقى والتمائم والتولة شرك”(4)، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من علق تميمة فقد أشرك”(5).
وإذا كان المعلق من القرآن الكريم، فهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فذهب بعضهم إلى جواز ذلك، ومنهم من منع ذلك، وقال لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء، وهو الأرجح لوجوه أربعة:
1- عموم النهي عن تعليق التمائم، ولا مخصص للعموم.
الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة فلا يجوز أن يتجاوزها المسلم
2- سداً للذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس من القرآن.
3- أنه إذا علق فلا بد أن يمتهن المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء، ونحو ذلك.
4- أن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به على المريض فلا تتجاوز.
لبس الحلقة والخيط ونحوها
والحلقة قطعة مستديرة من حديد أو ذهب أو فضة أو نحاس أو نحو ذلك، والخيط معروف، وقد يجعل من الصوف أو الكتان أو نحوه، وكانت العرب في الجاهلية تعلق هذا ومثله لدفع الضر أو جلب النفع أو اتقاء العين، وكل هذا محرم، فإن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله فقد أشرك، قال تعالى: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (الزمر: 38)، وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا) (الإسراء: 56).
التوسل في الشرع يراد به التوصل إلى رضوان الله تعالى والجنة بفعل ما شرعه وترك ما نهي عنه
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، فقال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهنا، انبذها عنك، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً”(6).
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف: 106)(7).
التوسل
التوسل المشروع هو التوسل إلى الله تعالى بالوسيلة الصحيحة المشروعة
والتوسل مأخوذ في اللغة من الوسيلة، والوسيلة والوصيلة معناهما متقارب، فالتوسل هو التوصل إلى المراد والسعي في تحقيقه، وفي الشرع يراد به التوصل إلى رضوان الله والجنة؛ بفعل ما شرعه وترك ما نهي عنه.
ولقد وردت لفظة “الوسيلة” في القرآن الكريم في موطنين:
– في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة: 35).
– وفي قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء: 57).
والمراد بالوسيلة في الآيتين، أي: القربة إلى الله بالعمل بما يرضيه، فقد نقل الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية الأولى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معنى الوسيلة فيها القربة، ونقل مثل ذلك عن مجاهد وأبي وائل والحسن البصري وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد(8).
وأما الآية الثانية فقد بين الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه مناسبة نزولها التي توضح معناها فقال: “نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجنيون، والإنس الذين يعبدونهم لا يشعرون”(9).
وهذا صريح في أن المراد بالوسيلة ما يتقرب به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة والعبادات الجليلة، ولذلك قال تعالى: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) (الإسراء: 57).
وينقسم التوسل إلى قسمين: توسل مشروع، وتوسل ممنوع.
التوسل الممنوع هو التوسل إلى الله تعالى بما لم يثبت في الشريعة أنه وسيلة مقبولة
– التوسل المشروع: وهو التوسل إلى الله بالوسيلة الصحيحة المشروعة، والطريق الصحيح لمعرفة ذلك هو الرجوع إلى الكتاب والسنة ومعرفة ما ورد فيهما عنها، فما دل الكتاب والسنة على أنه وسيلة مشروعة فهو من التوسل المشروع، وما سوى ذلك فإنه توسل ممنوع.
– التوسل الممنوع: وهو التوسل إلى الله تعالى بما لم يثبت في الشريعة أنه وسيلة، وهو أنواع بعضها أشد خطورة من بعض، منها:
1- التوسل إلى الله تعالى بدعاء الموتى والغائبين والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات ونحو ذلك، فهذا من الشرك الأكبر الناقل من الملة.
2- التوسل إلى الله بفعل العبادات عند القبور والأضرحة بدعاء الله عندها، والبناء عليها، ووضع القناديل والستور ونحو ذلك، وهذا من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد، وهو ذريعة مفضية إلى الشرك الأكبر.
3- التوسل إلى الله بجاه الأنبياء والصالحين ومكانتهم ومنزلتهم عند الله، وهذا محرم، بل هو من البدع المحدثة؛ لأنه توسل لم يشرعه الله ولم يأذن به، قال تعالى: (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) (يونس: 59)، ولأن جاه الصالحين ومكانتهم عند الله إنما تنفعهم هم، كما قال الله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم: 39)، ولذا لم يكن هذا التوسل معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
شبهات وردها في باب التوسل
قد يورد المخالفون لأهل السُّنة والجماعة بعض الشبهات والاعتراضات في باب التوسل؛ ليتوصلوا بها إلى دعم تقريراتهم الخاطئة، وليوهموا عوام المسلمين بصحة ما ذهبوا إليه، ولا تخرج شبهات هؤلاء عن أحد أمرين:
الأول: إما أحاديث ضعيفة أو موضوعة يستدل بها هؤلاء على ما ذهبوا إليه، وهذه يفرغ من أمرها بمعرفة عدم صحتها وثبوتها، ومن ذلك:
1- حديث: “توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم”، أو “إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم”، وهو حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث.
2- حديث: “إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور”، أو “فاستغيثوا بأهل القبور”، وهو حديث مكذوب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق العلماء.
3- حديث: “لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه”، وهو حديث باطل مناقض لدين الإسلام، وضعه بعض المشركين.
4- حديث: “لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال: غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك”(10)، وهو حديث باطل لا أصل له، ومثله حديث: “لولاك ما خلقت الأفلاك”، فمثل هذه الأحاديث المكذوبة والروايات المختلقة الملفقة لا يجوز لمسلم أن يلتفت إليها فضلاً عن أن يحتج بها ويعتمدها في دينه.
الثاني: أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم يسيء هؤلاء فهمها وينحرفون عن مرادها ومدلولها.
ومن ذلك: ما ثبت في الصحيح: “أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون”(11).
ففهموا من هذا الحديث أن توسل عمر رضي الله عنه إنما كان بجاه العباس رضي الله عنه ومكانته عند الله عز وجل، وأن المراد بقوله: “كنا نتوسل إليك بنبينا -أي بجاهه- فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا” -أي بجاهه- وهذا ولا ريبِ فهم خاطئ وتأويل بعيد لا يدل عليه سياق النص؛ إذ لم يكن معروفا لدى الصحابة التوسل إلى الله بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه، وإنما كانوا يتوسلون إلى الله بدعائه حال حياته، وعمر رضي الله عنه لم يرد بقوله: “إنا نتوسل إليك بعم نبينا” أي ذاته أو جاهه، وإنما أراد دعاءه، ولو كان التوسل بالذات أو الجاه معروفا عندهم لما عدل عمر عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بالعباس رضي الله عنه، بل ولقال له الصحابة إذ ذاك كيف نتوسل بمثل العباس ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق، فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل لا بذاته، وبهذا يتبين أن الحديث ليس فيه متمسك لمن يقول بجواز التوسل بالذات أو الجاه.
_______________________________
(1) صحيح مسلم تحت رقم (2200).
(2) صحيح مسلم برقم (2196)، “النملة” بفتح النون وإسكان الميم: قروح تخرج من الجنب.
(3) صحيح البخاري برقم (5743)، وصحيح مسلم برقم (2191).
(4) سنن أبي داود برقم (3883)، ومستدرك (4/ 241) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(5) مسند أحمد (4/ 156)، وصححه الحاكم (4/ 244) وقال عبدالرحمن بن حسن ورواته ثقات.
(6) رواه أحمد في المسند (4/ 445)، وقال البوصيري: إسناده حسن، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
(7) تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2207).
(8) تفسير ابن كثير (2/ 50).
(9) صحيح مسلم برقم (3030)، وصحيح البخاري رقم (4714).
(10) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ج 1 / 88 ح 25.
(11) صحيح البخاري تحت رقم (3710).