من أنماط التفكير التي ينبغي أن يعتني الآباء بتنميتها لدى الأولاد يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام التفكير الناقد؛ ذلك النمط من التفكير الذي يؤدي دوراً بالغ الأهمية في حياة الإنسان، إذ يحتاج إليه المرء في أبسط أموره وفي عظائمها، فإذا ما كان مكوناً أساسياً في بناء شخصيته، فإن لذلك أثراً إيجابياً على اختياراته وقراراته في الحياة بصورة عامة، وإذا افتقد إليه فإنه يفتقد إلى الآلية المنهجية التي تدعم صواب اختياراته وقراراته، وربما كان ذلك سبباً غير مباشر لمعاناته في الحياة.
بعيداً عن الاختلافات الأكاديمية لمفهوم التفكير الناقد، فيمكن تعريفه بأنه «عملية عقلية يتم من خلالها دراسة موقف ما، وفهمه، ثم تحليله، والربط بين عناصره للوصول إلى إصدار حكم حوله».
التفكير الناقد يوفر حماية للمرء من التلاعب بأفكاره خاصة في ظل التدفق المعلوماتي الكبير
فوائد التفكير الناقد:
1- درع أمام التلاعب بالأفكار والمعتقدات:
صاحب التفكير الناقد لا يستطيع أن يتقبل الأمور والحوادث كما تُروى له، ولا يسارع بتصديق ما يعرض عليه من أفكار وتصورات قبل تقييمها والتحقق من صدقيتها وصحتها، وفي ذلك حماية للمرء من التلاعب بأفكاره ومعتقداته، خاصة في ظل التدفق المعلوماتي الكبير الذي تبثه شبكة الإنترنت وغيرها.
2- تطوير القدرة على اتخاذ القرارات:
يساعد التفكير الناقد على دراسة الأمور وتحليليها وتقييمها من جوانبها المختلفة بصورة دقيقة، وهذا بدوره يدعم مهارات حل المشكلات، كما يطور القدرة على اتخاذ القرارات وفق منهجية صحيحة.
3- دعم استقلالية الشخصية:
يعد واحداً من أهم العوامل التي تدعم استقلالية الشخصية، إذ من خلاله يستطيع المرء أن يكوّن آراءه ووجهة نظره الخاصة به، ويكون لديه القدرة على التعامل مع كثير مما يواجهه من مواقف ومشكلات معتمداً على ذاته.
4- إثراء المعرفة والخبرات:
فصاحب التفكير الناقد يحتاج في حكمه على الأمور إلى دراسة جوانب الموضوع المختلفة، وهذه الدراسة تمثل بدورها مزيداً من اكتساب المعرفة أو الخبرات.
5- تحفيز للتفكير الإبداعي:
إذا أصبح التفكير الناقد سلوكاً معتاداً لدى المرء في تعاملاته اليومية؛ فإن ذلك يعني تمتعه بقدرة أفضل على تحليل الأفكار وتعديلها، وهذا بدوره يخلق لديه مساحة أكثر اتساعاً من الأساليب الإبداعية في التعامل مع المواقف والمشكلات التي يمر بها.
6- حماية من التحيز والشخصنة:
يدعم لدى المرء القدرة على الحكم في الأمور المختلفة بطريقة موضوعية، تقل فيها التحيزات والأحكام الشخصية.
7- تطوير لجوانب الشخصية:
يساعد على تطوير العديد من المهارات المعرفية الأخرى المرتبطة به، مثل: التفكير التحليلي، ومهارات التقييم والتنظيم والتخطيط والتأمل الذاتي.. وغيرها.
خطوات عملية:
فيما يلي بعض المقترحات التي يمكن من خلالها تنمية مهارة التفكير الناقد لدى الأبناء:
1- تواصل فعال:
احرص على أن تمد جسور الحوار بينك وبين طفلك، بأن تخصص له وقتاً تتحدث إليه فيه وتسمع منه، ووفر له مناخاً إيجابياً للتفكير الحر والتعبير عن رأيه أياً كان؛ فلا تسخر أو تسفّه ما يطرحه من أسئلة أو إجابات مهما كانت بسيطة أو بعيدة عن الواقع والمنطق، لكن تقبَّل ذلك بصدر رحب، وساعده على تطوير أسئلته أو إجاباته حتى تصبح منطقية ومقبولة؛ فالحوار والتواصل الجيد أساس في بناء التفكير الناقد لديه.
درِّب طفلك على التمييز بين الحقيقة والرأي فالأولى شيء يمكن إثباته أما الرأي فوجهة نظر شخصية
2- تمييز بين الحقيقة والرأي:
درّبه على التمييز بين الحقيقة والرأي، ووضّح له أن الحقيقة شيء يمكن إثباته أو هي وصف لواقع، أما الرأي فهو وجهة نظر شخصية، ويمكنك ذلك باستخدام بعض العبارات المناسبة لعمره وقدراته، ثم تطلب منه أن يحدد أيها حقيقة وأيها رأي، ثم تدير نقاشاً معه حولها، ومن أمثلة هذه العبارات: 8 أكبر من 5، مادة اللغة العربية أسهل من الرياضيات، الملابس البيضاء أجمل من الملابس الرمادية، السيارة أكبر من الدراجة، لعب كرة القدم أفضل من لعب كرة السلة، الماء حاجة أساسية للإنسان، الصلاة من أركان الإسلام.. إلخ.
3- التروّي قبل الموافقة أو الرفض:
وضِّح له أنه من الخطأ أن يميل إلى الموافقة أو الرفض لأمر ما دون تأمُّل أو تفكير كافٍ؛ فمثلاً لو حكم على زميله أنه جيد أو سيئ، فاسأله: كيف توصل إلى ذلك الحكم؟ ما الحقائق التي بنى عليها الحكم؟
4- البحث وجمع المعلومات:
نمِّ لديه حب البحث والوصول إلى المعلومات، وذلك بأن تمارس معه الأمر بصورة عملية، فإذا ما سألك عن شيء ما، فلا تجبه على الفور، ولكن تشارك معه في الرجوع إلى مصدر (كتاب أو الإنترنت أو غيره) للبحث عن الإجابة، وكذلك يمكنك أن تسند إليه البحث عن معلومة ما تحتاج لمعرفتها، وليكن ذلك في إطار اهتماماته وهواياته، وبما يناسب عمره وقدراته.
5- تفنيد الآراء وتقييمها:
اطرح على طفلك -بطريقة بسيطة وفي دائرة اهتماماته- رأياً ما (إذا كان كل لاعبي فريق كرة القدم جيدين؛ فسيكون أداء الفريق جيداً)، ثم اطرح عليه رأياً آخر يختلف عن الرأي الأول (إذا كان كل لاعبي فريق كرة القدم جيدين؛ فلا يعني هذا أن يكون أداء الفريق جيداً)، ثم اسأله عن أي الرأيين يراه صواباً، مع شرح أسباب اختياره لهذا الرأي، فهذه الطريقة تطور قدرته على التقييم وإصدار الأحكام.
6- الابتعاد عن التعميم:
علِّمه ألا يعمّم في حكمه على الأمور، فإذا رأيته يطلق حكماً عاماً على أمر ما فناقشه فيه، فمثلاً لو سمعته يقول: كل مدرسي اللغة العربية لا يشرحون النحو جيداً؛ فناقشه حول هذا الأمر، ووضِّح له أن هناك فروقاً بين الأشخاص، وأن لكل منا نقاط قوة ونقاط ضعف.
تبنِّي وجهة النظر المخالفة بالنقاش حول موضوع ما يدفع الأولاد للبحث عن الحجج التي تؤيد رأيهم
7- استثارة البحث عن الحجج والبراهين:
إذا ما كنت في نقاش مع طفلك وأسرتك حول أمر ما، ورأيت الجميع يسير في اتجاه رأي واحد، فيمكنك أن تثري النقاش بأن تتبنى أنت وجهة النظر المخالفة؛ فهذا يثير النقاش، ويدفعهم للبحث عن الحجج والبراهين التي تؤيد رأيهم.
8- عرض الخيارات وحيثياتها:
شاركه هو وإخوته في تنفيذ موقف تمثيلي يحتاج فيه إلى اتخاذ قرار في أمر ما (تعطل سيارة الأب أثناء العودة من الذهاب للمدرسة مثلاً)، وبعد أداء الدور اطلب منه أن يطرح الحلول الممكنة لهذا الموقف، بأن يذكر الخيارات التي استطاع الوصول إليها، ويعرض كل خيار على حدة، مع ذكر حيثيات كل خيار، ويشرح ما يترتب عليه، وذلك بطريقة تناسب عمره وقدراته.
9- طرح الأسئلة واستثارة العمليات العقلية:
استثمر بعض مواقف الحياة أو الأحداث التي يمر بها طفلك، واطرح عليه عدداً من الأسئلة، التي تعمل على جذب الانتباه واستثارة العمليات العقلية لديه، فمثلاً عند شرائه لشيء جديد يمكنك أن تسأله: لماذا اخترت هذا الشيء؟ ما إيجابياته؟ وما سلبياته؟ وعند تصرف شخص تصرفاً إيجابياً أو سلبياً يمكنك أن تسأله: هل تعتقد أن ما فعله مقبول أم مرفوض؟ لماذا قام بهذا التصرف؟ كيف توصلت إلى أن هذا الفعل صواب أو خطأ؟
كذلك يمكنك أن تقرأ معه قصة ما، ثم تسأله بعض الأسئلة حولها، مثل: ماذا يمكنه أن يفعل لو كان هو بطل القصة؟ ماذا أحب في القصة؟ ولماذا؟ ماذا كره فيها؟ ولماذا؟
10- استثمار اللعب:
العب معه بعض الألعاب التي تثير التفكير لديه، ومن أمثلتها لعبة اللغز، وفيها يخرج اللاعب بعيداً عن الأسرة أو زملائه الذين يشاركونه اللعب، ويتفق اللاعبون على شيء معين قد يكون نباتاً أو جماداً أو حيواناً.. إلخ، ثم يدخل اللاعب ويوجه لهم عدة أسئلة حول هذا الشيء (هل هو حيوان أم نبات أم جماد؟ ما لونه؟ هل يؤكل؟ ما شكله؟)، وعليهم أن يجيبوه، حتى يكتشف هذا الشيء.
وكذلك شجّعه وشاركه في ممارسة بعض الألعاب التي تتضمن المقارنة بين الأشياء واستخراج أوجه الشبه والاختلاف؛ لأنها تنمي مهارات التفكير الناقد.