استكمالا لرحلة الزمان والمكان لمكتبات الإسكندرية وبائعي الكتب، ما زلنا في نفس الفترة الزمنية الممتدة من الستينيات حتى بداية القرن، وننتقل في المكان لشارع “النبي دانيال” وشارع “سعد زغلول“.
يشتهر شارع “النبي دانيال” في الوصلة من تقاطعه مع شارع “فؤاد” وحتى وصوله لمحطة مصر ببيع الكتب المستعملة والقديمة، وفي نفس هذه الوصلة من الشارع يوجد “المركز الثقافي الفرنسي”، وجامع “النبي دانيال”، وجامع “سيدي عبد الرزاق الوفائي”، و”مكتبة الصياد”، و”مكتبة سامي”، وغيرها.
بدأت قصة بيع الكتب القديمة في الشارع منذ مطلع الستينيات؛ بدأت بثلاثة بائعين للكتب المستعملة على عربة خشبية متحركة على عجلتين يدفعها سائقها للأمام من خلال ذراعين، مثل عربات “الروبابيكيا” التي كانت تتحرك في الشوارع والأزقة لشراء الأشياء القديمة من البيوت، ومع الوقت بدأوا يضعون فَرْشا ثابتا على الرصيف (ما زال اثنان من البائعين الثلاثة على قيد الحياة يمارسان المهنة في نفس المكان، عم “حسين” وعم “إبراهيم”، أما عم “زكي” رحمه الله فقد ورث ابنه “فتحي” مهنته).
ومع الوقت بدأ عدد من يفرشون بضاعتهم من الكتب في التزايد حتى تجاوز ثلاثين فرشا، وبدأت هذه الوصلة من شارع النبي دانيال تشتهر ببيع الكتب القديمة، وتجتذب هواة القراءة، تماما مثل سور الأزبكية في القاهرة.
ورواد مكتبات الكتب القديمة أنواع؛ منهم من يبحث عن كتب مستعملة بسعر أرخص من مثيله الجديد في المكتبات، ومنهم من يبحث عن كتاب معين نفدت طبعاته من المكتبات، وقد يكون الكتاب في هذه الحالة بسعر الجديد أو أكثر قليلا، ومنهم من يبحث عن الكتب القديمة والنادرة، وهذا عالم آخر تتفاوت فيه الأسعار ويصل لأسعار مرتفعة جدا بحسب مادة الكتاب وندرته وقدم تاريخ طباعته، وحالته الحالية، وإن كان عليه توقيع المؤلف أم لا .
وفي بداية الألفية الجديدة وأثناء وجود “عبد السلام محجوب” محافظا للإسكندرية، تم توفيق أوضاع بائعي الكتب القديمة وتحويل أماكنهم العشوائية على الأرصفة إلى أكشاك ثابتة، وتقريبا بعدد من كانوا يفترشون الأرصفة نحو ثلاثين كشكا، بعضهم يهتم بالكتب المدرسية، وبعضهم بكتب التراث أو كتب الأدب والفكر، وبعضهم مختص ببيع الكتب الأجنبية.
وبالمناسبة كان كثير من مكتبات الإسكندرية تختص ببيع الكتب الأجنبية، وكان منها “مكتبة هاشيت” مختصة في الأدب الفرنسي، وكان أساتذة اللغة الفرنسية في مدرستنا الثانوية يوجهوننا للشراء منها، وتحولت هذه المكتبة منذ نحو عشرين عاما لمعرض لبيع الخزف.
وأدركت في طفولتي مكتبة في بداية شارع السبع بنات أمام المنطقة التعليمية التي كانت مدرسة الرحمة سابقا، وبجوار كنيسة الآباء العازريين، كانت متخصصة في بيع الكتب الأجنبية وصاحبها “إبراهيم عزيز بطايني” وانتهى نشاطها في السبعينيات.
وفي امتداد شارع النبي دانيال في اتجاه محطة الرمل على الناصية مكتبة مؤسسة الأهرام في فيلا منفصلة، وبالاستمرار في الشارع وبعد تجاوز “مكتبة إخوان الصفا وخلان الوفا”، وبعد تجاوز “الكنيس اليهودي” وصولا لشارع سعد زغلول، ننتقل للمكتبات الكبرى (منشأة المعارف ودار المعارف والهيئة المصرية العامة للكتاب)، وقريب منها كان عالم الطوابع، وهو محل لبيع الطوابع لهواة جمع الطوابع، بخلاف مكتبات: النيل والأهلية ونبع الفكر وغيرها، وما زالت المكتبات الثلاث الكبرى موجودة.
ومع كل إجازة كنت أقضيها في الإسكندرية بعد سفري خارج مصر في التسعينيات، كنت أعتبر زيارتي لهذه الأماكن نوعا من صلة الرحم بيني وبين قطعة مني، ولم أفارق تلك العادة مهما قصُرَت مدة إقامتي، وكنت بعد زيارتي لوالدتي في شارع “باب الكراستة” أتوجه سيرا على الأقدام لشارع “النبي دانيال” ومنه لشارع “سعد زغلول” لزيارة كل تلك المكتبات، وشهدت بأسى خلال تلك السنين العشرين من الألفية الثانية التدهور المتسارع في عالم المكتبات واختفاء أكثرها.
ومنذ سنوات وأنا داخل مكتبة “عالم المعرفة”، سألت الموظف: أين مكتبة النيل والأهلية ونبع الفكر… التي كانت قريبة من مكتبتكم؟
قال لي: تحولت لمحلات بيع أحذية أو ملابس.
ثم أردف مبتسما بسخرية: “مكتبة نبع الفكر بعد أن تحولت لمحل بيع أحذية، ظل صاحب المحل محتفظاً لفترة بنفس يافطة المكتبة، يعني البضاعة أحذية، واللافتة نبع الفكر!
وافهمها أنت بقه يا بيه”!