بيت النحل في غاية الدقة والإتقان؛ يبنيه جيش من النحل، كل نحلة فيه تعرف موقعها وحدود وظيفتها، وتقوم بدورها المطلوب.
دقة ونظام والتزام يثير الإعجاب والتقدير، ولكن السؤال المهم هو: هل تطور بيت النحل منذ نشأته إلى الآن؟
وهل من الممكن لهذا الجيش من النحل أن يغير بيته في المستقبل؟
وفي المقابل: هل احتفظ بيت الإنسان بشكله أم تطور؟
وهل من الممكن تخيل وضع ثابت يلتزم به كل الناس لشكل بيوتهم؟
وهنا نضع أيدينا على خاصية من خصائص المجتمع الإنساني، وفارق جوهري بين المجتمع الإنساني ومجتمع الحشرات أو سائر المخلوقات؛ فبيت الإنسان يتكون أولاً في خياله قبل أن يحوله إلى واقع؛ فالإنسان يختلف عن سائر المخلوقات بما وهبه الله من خيال وإبداع وابتكار وإرادة حرة للاختيار.
ويوم يفقد المجتمع الإنساني تلك الصفات الإنسانية؛ فهو يفقد أخص خصوصيات الإنسانية ويتحول إلى مجتمع “حَشَري“!
وقد خاضت بعض النظم السياسية تلك التجربة بالفعل؛ فالنظم الشيوعية والفاشية والعسكرية حاولت تحويل مجتمعاتها إلى معسكرات عمل، ونجح بعضها من خلال النظم الصارمة في خلق منظومة إنتاج ناجحة من خلال معسكرات العمل الصناعية والمزارع التعاونية، وبعضها فرض زيًّا موحدا للشعب، ونماذج مكررة لأماكن السكن.
وبدت مجتمعاتها كخلية نحل دقيقة منظمة، واستطاعت أن تبني بيوتاً ومصانع وأسلحة وتكنولوجيا…
ثم ماذا كانت النتيجة؟
اكتشف الإنسان أن تقليص دوره إلى مجرد وظيفة إنتاجية استهلاكية، هو عملية منظمة لسلب إنسانيته، وأن أي نظام ينزع عن الإنسان حريته ويعفيه مسئولية الاختيار الحر، ويحوله إلى مجرد تِرس في آلة المجتمع.. هو نظام محكوم عليه بالفشل.
وبالفعل انهارت تلك المجتمعات (الحَشَرية) أمام التطور المستمر للإنسان وتطلعه الفطري للحرية والإبداع والاختيار والمسئولية، ورفضت كل المجتمعات المتطورة هذه النظم “الحشرية” التي ما زالت الدول المتخلفة تتمسك بها.
ولكن يبقى للثقافة دورها في هذا الإطار؛ فالعيش المنظم في مجتمع “حَشَري” هو مطلب مريح لمَنْ تعوّد عليه؛ فكثير من الناس يعشق عيشة النحل، ويرتاح لوجود ملكة يثق في عقلها وحكمتها، ويسلمها زمام أمره، ويكتفي هو بوظيفة “الشغالة” ليضمن له مكاناً داخل الخلية. أما الإنسان السوي الذي يشعر بكرامته وحريته؛ فيرفض العيش في مملكة النحل، حتى لو كان غارقا في عسلها.