عادة ما يتم تبرير حالة التراجع والنكوص وتخلفنا عن ركب التقدم والنهوض ووجود فجوة حضارية بيننا وبين الأمم المتحضرة تقدر بـ300 عام إلى عدة تبريرات، منها وجود الاحتلال، فهل فعلاً الاحتلال المحرك الأساسي لتخلفنا؟
للاحتلال عدة صور وأشكال، فمنه الاحتلال العسكري ووجود قوات أجنبية على الأرض الوطنية ومصادرة السلطة السياسية ووضع سلطة أجنبية تقوم بإدارة شؤون الدولة بما يحقق مصالح دولة الاحتلال، وهناك الاحتلال الإحلالي الاستيطاني الذي بموجبه تقوم الدولة المحتلة بتهجير السكان الأصليين وإحلال مكانهم السكان الأجانب وإقامة دولة أجنبية أو تبعية الأرض للدولة الأجنبية كما في الاحتلال “الإسرائيلي” أو الإيراني لبعض المناطق العربية.
الاحتلال يمكن وصفه بأنه عرض من أعراض تخلف الأمم ونكوصها، فالاحتلال نتيجة للتخلف وليس المسبب له، فالتخلف والنكوص والتراجع وبعد ذلك حدوث حالة ضعف عام تهيئ المناخ لوقوع الاحتلال، إذ يمكن أن يقال: إنّ الاحتلال هو عرض لمرض التخلف لا مسبب التخلف والنكوص.
كثير هي الدول التي نهضت تحت شروط الاحتلال وسيطرته كما حدث باليابان التي خسرت الحرب العالمية الثانية وتم وضع شروط واتفاقيات إذلال لها من أمريكا حتى تم منعها من إقامة وتطوير جيش هجومي والاكتفاء بتطوير جيش دفاعي فقط، اليابانيون وجدوا في تلك الحالة فرصة لهم للنهوض في مجال آخر لا تمانعه الدول المنتصرة، فعلى الرغم من وجود أكثر من 45 ألف جندي أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن على الأرض اليابانية، فإن اليابان استطاعت أن تبني أكبر اقتصاديات العالم، لتبلغ صادرات اليابان 16% من الصادرات العالمية في أوج قوتها الاقتصادية، وأقامت اقتصاداً فولاذياً ليمكنها أن تكون في مصاف الدول المتقدمة في كل المجالات، إذ يقدر البعض أن الفجوة بين اليابان وأوروبا في الصناعات الإلكترونية الدقيقة عقود من الزمن، وأصبح الغرب يطالب اليابان أن تطور جيشها وتشارك معهم في تأمين المناطق في العالم.
ذات الأمر تكرر في كوريا الجنوبية التي خرجت من حرب أهلية مع كوريا الشمالية حتى عام 1952م، ووجود أكثر من 25 ألف جندي أمريكي على أراضيها حتى الآن، إلا أنها وجدت في تلك الحالة فرصة للتقدم والنهوض رغم الوجود العسكري الأجنبي على الأرض، فما دامت السلطة في أيديهم قرروا إعادة بناء دولتهم بشكل مختلف، فأصبحت كوريا الجنوبية على الرغم من قلة إمكاناتها وثرواتها الطبيعية من أكبر الاقتصاديات العالمية وعملاقة في الصناعات التي تغزو كل العالم في شركات متعددة الجنسيات في كل المجالات الصناعية التي انعكست على كل مجالات الحياة من عمل وصحة وتعليم.
في مقابل ذلك، هناك دول مستقلة كل الاستقلال ولديها علاقات متوترة ومناوئة للغرب، وتمتلك كثيراً من الثروات الطبيعية مثل كوبا وفنزويلا وإيران، ومع ذلك لديها حالات من التخلف والنكوص في كل المجالات باستثناء القدرات العسكرية، إذ إن شعوب تلك الدول لا يتجاوز دخل الفرد فيها أكثر من 100 دولار شهرياً، وبعضها دخل الفرد الشهري فيها أقل من 35 دولاراً.
بلا شك أن الاحتلال الاستيطاني الإحلالي ومصادرة سلطة الدولة ليصبح الشعب شعباً أجنبياً والسلطة سلطة أجنبية لا يمكن لسكان الأرض الأصليين النهوض إلا بإزاحة الاحتلال عن كواهلهم، وإزاحة الاحتلال لا تكون إلا بفوهة السلاح، لأنه لا نهوض إلا بتوفر عناصر النهوض؛ الأرض والسكان والسلطة السياسية، والاحتلال الإحلالي يصادر كل تلك العناصر، فيصادر الأرض ويهجر الشعب ويغتصب السلطة.
كثير من الدول العربية استقلت قبل استقلال الدول الناهضة مثل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة، ومع ذلك نهضت تلك الدول بينما ارتكست الدول العربية وتخلفت.
يمكن لأي أمة أن تنهض ولو كانت تعمل تحت شروط الاحتلال ووجود قوات أجنبية على أرضها ما دامت تمتلك السلطة السياسية والسيادة على الأرض ولديها مواردها البشرية، على أن يكون لديها رغبة وخطة في النهوض، وعندما تنهض الأمم فإن عرض الاحتلال لمرض التخلف والنكوص سوف يزول بزوال التخلف.