في مقال سابق، رددت على شبهة بشرية رواة السُّنَّة، إلا أن منكري السُّنَّة أثاروا شبهة جديدة، وهي الطعن في مصدر السُّنَّة، وهو الرسول صلى الله عليها وسلم، ويؤكدون أنه صلى الله عليه وسلم بشر يصيب ويخطئ، ونراهم وهم يرددون هذه الشبهة يحملون حقداً دفيناً على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه نرى بذاءاتهم نحو الذين يقدسون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون بعصمته صلى الله عليه وسلم من الخطأ، وليس لمنكري السُّنَّة من سند يتكئون عليه في إثارة هذه الشبهة إلا حديث تأبير النخل المعروف، يقول أحد هؤلاء الحمقى في إحدى صحفهم الصفراء: لو كان كل ما قال النبي أو صدر عنه من أفعال وحياً من السماء، فماذا عن حادثة تأبير النخل، ونهى النبي عن التأبير مما أدى إلى فساد المحصول، وتعقيبه صلى الله عليه وسلم بالقول: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”، وإذا كان موحى من الله فهل كان الله يناقض نفسه؟ لقد كان قول النبي: “أنتم أعلم بشؤون دنياكم” اعتذاراً مهذباً بأدب نبوي، عن خطأ بشري ارتكبه بنهيه عن تأبير النخل، وفساد المحصول على أصحابه، بكلام بشري لا عصمة فيه عن الخطأ والسهو والنسيان، هذا كلامهم وهم يتحدثون عن خاتم النبيين وكأن بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم ثأراً يحاولون التشفي منه.
بيان بطلان هذه الشبهة وتفنيدها
بداية، ينبغي أن ندرك أن مرادهم من أن ما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس وحياً، هو نفي العصمة عنه؛ لأنه بشر، والبشر يخطئون ويصيبون، إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معصوماً من الخطأ، وحديث تأبير النخل ساقوه دليلاً على صحة دعواهم، لا على أنه الحديث الوحيد الذي قد أخطأ فيه، بل إن هذا الخطأ يسري عندهم على كل ما صدر عنه مما رواه الثقات من علماء الحديث!
وقصة الحديث الذي يستندون إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على قوم يؤبرون نخلاً لهم، أي يضعون طلع الذكور في “أكمام الإناث”، فأشار عليهم صلى الله عليه وسلم أنهم لو لم يفعلوا لا يضرهم، فتركوه فشاص التمر ولم يكتمل نموه فعادوا إليه وأخبروه، فقال: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”(1).
لقد بالغ منكرو السُّنَّة في هذه “الواقعة” واتخذوا منها وليجة للتطاول البذيء على مقام الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم، وجزموا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر يخطئ ويصيب كسائر البشر، وأنه ليس معصوماً من الخطأ ولا مقدساً.
إن هؤلاء الحمقى لم يتورعوا في الإساءة إلى سُنة الرسول الكريم عن أي شيء يقولونه مهما كان من المنكر والزور، وقد تصدى لهؤلاء الحمقى من قبل العلامة المحقق الكبير أحمد محمد شاكر رحمه الله فقال فيهم: “وهذا الحديث مما طنطن به ملحدو مصر وصنائع أوروبا فيها، من عبيد المستشرقين، وتلامذة المبشرين، فجعلوه أصلاً يحاجّون به أهل السُّنة وأنصارها وخدام الشريعة وحماتها، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السُّنَّة، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام، في المعاملات وشؤون الاجتماع وغيرها، يزعمون أن هذه من شؤون الدنيا، يتمسكون برواية أنس: “أنتم أعلم بأمر دنياكم”، والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين، ولا بالألوهية، ولا بالرسالة، ولا يصدقون القرآن في قرارة نفوسهم، ومن آمن منهم فإنما يؤمن بلسانه ظاهراً ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه، لا عن ثقة وطمأنينة، ولكن تقليداً وخشية فإذا ما جدّ الجدّ، وتعارضت الشريعة -الكتاب والسُّنة- مع ما درسوا في مصر أو في أوروبا، لم يترددوا في المفاضلة، ولم يحجموا عن الاختيار، فضَّلوا ما أخذوه عن سادتهم، واختاروا ما أشربته قلوبهم، ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك، أو ينسبهم الناس إلى الإسلام”(2).
الملاحدة الذين وصفهم الشيخ شاكر –هنا– كانوا يستدلون بهذا الحديث على أن كل شؤون الدنيا لا تخضع لتوجيهات الإسلام، وقد طور منكرو السُّنَّة المعاصرون هذا الاستدلال، وجعلوه مفيداً لنفي العصمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعويان من واد واحد، بيد أن دعوى المنكرين المعاصرين أشد قبحاً من دعوى سلفهم الذين تحدث عنهم الشيخ شاكر رحمه الله لأن منكري السُّنَّة المعاصرين يحاولون هدمها من الأساس كما رأينا في شبهتهم المذكورة هنا.
النبي معصوم وإن جحد الحاقدون
لقد أجمع علماء الأمة على أن الأنبياء معصومون في مجال التبليغ عن الله عز وجل، وجملة ما ذكروا عصمة الأنبياء عنه هي الأمور الآتية:
“كتمان الرسالة – الكذب في دعواها – الجهل بأي حكم أنزله الله عليهم – أو الشك فيه – أو التقصير في تبليغه – ظهور الشيطان لهم في صورة ملك – تلبيس الشيطان عليهم – أو تسلطه على خواطرهم – تعمد الكذب في الإخبار عن الله – تعمد بيان أي حكم شرعي على خلاف ما أنزل إليهم، سواء كان ذلك البيان بالقول، أو بالفعل، أو بالرضا والموافقة، فذلك كله قد انعقد من أهل الشرائع على وجوب عصمة الأنبياء جميعاً منه”(3).
وهذه العصمة الواجبة للأنبياء في مجال التبليغ وعدم وقوع ما يخالفها منهم من قول أو فعل، أو رضاً، ليست مقصورة على الوحي المنزل إليهم من ربهم، بل هي عامة لكل ما يتصل بأصول الرسالة وفروعها وشؤون التكليف.
ليس في الحديث دليل
وحديث تأبير النخل، الذي توهموا أنه دليل لهم على نفي العصمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس لهم فيه دليل، بل هو دليل على جهلهم وعنادهم، علموا أم لم يعلموا، وإن خيبة الأمل ملازمة لهم في كيدهم للسُّنَّة وصاحبها، والأمة جميعاً وويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
إن هذا الحديث لم يُرِد به النبي صلى الله عليه وسلم التبليغ عن الله، ولا وضع قاعدة فقهية، ولا بيان حكم شرعي، وإنما هو رأي أبداه حول أمور تخضع للتجارب، وعمل العقل، فهو صلى الله عليه وسلم، لم يُبعث خبيراً زراعياً، ولا هذا من شأن الرسل والرسالات والأعمال الدنيوية البحتة لم ينزل الله فيها كتاباً، ولم يرسل من أجلها رسلاً، وإنما هي أمور يمارسها الإنسان بحرية، وينتقل من تجربة إلى تجربة ويرصد النتائج، ويختار الأصلح، هذا هو مجال العقل، والعلم التجريبي لا يتدخل فيه الشرع إلا فيما يتعلق بالحل والحرمة، والجواز والكراهة، يبين هذا كله قوله صلى الله عليه وسلم لما راجعه أصحاب النخل حين لم يكتمل لهم تمرهم بعد أن تركوا التأبير: “إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوه، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر”(4).
وقد حدث مثل هذا في مناسبات أخرى، مثلما حدث في غزوة بدر لما عَسْكَّر النبي صلى الله عليه وسلم بالجيش في موضع، ثم انتقل منه إلى موضع آخر، نزولاً على رأي الحباب بن المنذر رضي الله عنه، ومثلما حدث في موادعة “غطفان” حين اقترح صلى الله عليه وسلم منحهم جزءاً من ثمار المدينة، نظير ألا يكونوا ظهيراً للمشركين على أهل المدينة، ثم رجع عنه نزولاً على رأي “السعدين” زعيمي الأوس والخزرج رضي الله عنهما.
هذا هو فقه هذه المسألة، ومنه يظهر جلياً أن منكري السُّنَّة قد ضلوا وأضلوا في دعواهم نفي العصمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرددين مزاعم خصوم الإسلام من المبشرين الحاقدين والمستشرقين الحاسدين، والعلمانيين الجاهلين، فهل يثوب هؤلاء إلى رشدهم؟ نرجو ذلك(5).
___________________________________
(1) رواه رافع بن خديج وأخرجه مسلم في صحيحه تحت رقم (2362).
(2) كتاب “حكم الجاهلية”، المؤلف: أحمد محمد شاكر، الناشر: مكتبة السنة، سنة النشر 1992، (1/ 46)، الملحدون واعتذار الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3) كتاب “حجية السُّنَّة”، المؤلف: د. عبدالغني عبدالخالق، (1/ 96).
(4) رواه رافع بن خديج وأخرجه مسلم في صحيحة تحت رقم (2362).
(5) أصل هذه الشبهات في كتاب: “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني، مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.