سبق وأن كتبنا عن الإبراهيمية، بأنها ذلك المعتقد الذي يجمع اليهودية والمسيحية والإسلام تحت مظلة واحدة هي مظلة التوحيد الذي دعا إليه نبي الله إبراهيم عليه السلام، وهي كلمة حق يراد بها باطل؛ لما في هذه الديانات من اختلافات عميقة حول مفهوم التوحيد.
والهدف من مزج هذه الديانات في بوتقةٍ واحدة هو هدف سياسي على الأغلب برتوش إنسانية مصطنعة، وكان القرآن الكريم بعد اكتمال الرسالة قد وضح أُسس التعامل مع الأديان الأخرى بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج: 17).
والمتمعن في أدبيات الإبراهيمية يلاحظ بدون أدنى شك أن هذا المبدأ يحط من قيم الإسلام ومبادئه بجعل التوحيد فيه مكافئاً للتوحيد في اليهودية، حيث الإله “يهوه” خاص باليهود، وللتوحيد المسيحي الذي يتكون فيه الإله من ثلاثة أجزاء أو أقانيم بصورة مبهمة لا مجال للخوض في تفاصيلها.
وعليه، فالإقرار بهذا المعتقد لا يعني إلا نسخاً ومَسخاً لأصل التوحيد الإسلامي الذي يقر بإله ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير.
والذي دفعنا لخلط الموضوعين في ورقة واحدة، أن كثيراً من المواقع الإلكترونية والنشرات تضع تحت عنوان البهائية ما نصه “ديانة توحيدية إبراهيمية”!
فالبهائية هي الوليدة غير الشرعية للبابية التي أعلنها، في 5 جمادي الأولى 1260هـ/ 22 مايو 1844م، علي محمد الشيرازي “الباب”؛ أي باب المعرفة لله!
وقد جاء كما يدعي يمهد الطريق لمن سماه “من يُظهره الله”، أي بظهور بهاء الله الذي بمجيئه ستتحقق نبوءات الأديان السابقة بعد ألف سنة على اتباعه (يقصد القيامة)، وقد ادعى الميرزا حسين علي نوري الذي أكمل مسيرة علي محمد الشيرازي.
ونحن لسنا بصدد تاريخ الحركة وتشعباتها، ولكن سنقف على إحدى مُنظراتها والداعية لها المسماة “قرة العين”، وقد سميت “زرين تاج” وهو اسم فارسي بمعنى التاج الذهبي، وكما يقول علي الوردي عن شخصية هذه المرأة المعجب بها التي دفعت حياتها ثمناً لدعوتها، وكانت من أشد أنصار الباب حماساً لدعوته، وزادت على ذلك بأن ظهور الإمام الغائب هو ظهور الباب ورجعة الأئمة هي تعبير عن ظهور السابقين في الدعوة البابية.
وقد ولدت قرة العين عام 1814م، في قزوين، وكانت شديدة الجمال وذات جاذبية ساحرة وتتقن العربية والفارسية وخطيبة من الطراز الرفيع.
تنقلت قرة العين بين كربلاء والكاظمية وبغداد، ولاحقاً بين المدن الإيرانية، وكانت في معظم دروسها تنادي بحلول اليوم الذي تُجدد فيه الشريعة الإسلامية وتنسخ تقاليدها البالية!
ثم غالت في دعوتها نحو الباب فقالت مرة: “قد ظهر الموعود أيها الغافلون، قد ظهر الرب الودود وأنتم نائمون”.
والغريب كما يقول علي الوردي، في كتابه “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث”، بأن من بين الذين تأثروا بها في همدان اثنان من أحبار اليهود، هما الملا إلياهو، والملا لالازار، حيث عرضت على هذين اليهوديين آيات من التوراة وكتب الأنبياء يُشار فيها إلى ظهور الباب فتعجبا من سعة إطلاع قرة العين على الكتب المقدسة، وكانت تلك البذرة الأولى لانتشار الدعوة بين اليهود!
علماً أن كثيراً من المصادر تشير إلى دعم السفير الروسي آنذاك للحركة البابية في عام (1264هـ/ 1844م)، تم عقد مؤتمر في صحراء بدشت في إيران بعيداً عن الأنظار وحضور كبار رجال الدعوة، وكان الباب حينها مسجوناً وتكلمت فيه قرة العين بحماسة قائلة: “اسمعوا أيها الأحباب والأغيار، إن أحكام الشريعة المحمدية قد نُسخت الآن بظهور الباب، وإن أحكام الشريعة الجديدة البابية لم تصل إلينا، وإن اشتغالكم الآن بالصوم والصلاة والزكاة وسائر ما أتى به محمد كله عمل لغو وفعل باطل ولا يعمل بها بعد الآن إلا كل غافل وجاهل”!
“وإن مولانا الباب سيفتح البلاد ويسخر العباد وستخضع له الأقاليم المسكونة ويسخر العباد وستخضع له الأقاليم السبعة وسيوحد الأديان على وجه البسيطة حتى لا يبقى إلا دين واحد هو دينه الجديد وشرعه الحديث”.
وهذا هو التوحيد البابي – البهائي الذي وضعوه تحت مظلة الإبراهيمية التي بدأت تضم كل الحركات الهدامة.
وتقول قرة العين عن المرأة: إن الزهرة لا بد قطفها وشمها لأنها خُلقت للشم والضم.. ولا تحجبوا حلائلكم عن أحبائكم.
إذ لا رادع الآن ولا حد ولا منع ولا تكليف ولا صد، فخذوا حظكم من هذه الحياة فلا شيء بعد الممات!
هذه هي مرتكزات البابية – البهائية المتمثلة بإلغاء الشريعة تحت مظلة وحدة الأديان، وإلغاء معتقد أن الإسلام هو آخر الرسالات، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء.
ثم انتهت حياتها بعد محاكمتها وإصرارها على أفكارها عام 1852م.
ومن الأقوال عن قرة العين ما قاله الوردي: “إني أعتقد على أي حال بأن قرة العين امرأة لا تخلو من عبقرية، وهي قد ظهرت في غير زمانها أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقل تقدير، فهي لو نشأت في عصرنا هذا، وفي مجتمع متقدم حضارياً لكان لها شأن آخر، وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين”.
أما الشاعر الشهير محمد إقبال (توفي عام 1938م) المعجب بالحلاج فيضع روح قرة العين في تطواف سمائي نهائي حول المشتري مع الحلاج لأن روحيهما لم تجدا مستقراً في الجنة، ولا يذكر شيئاً عن معتقداتها البابية في إلغاء الشريعة والإتيان بدين جديد يختلف عن الإسلام.