حجاب المرأة المسلمة.. شبهة اليوم هي شبهة هؤلاء الذين يكرهون العفة ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
إن حجاب المرأة المسلمة من أول الموضوعات التي التف حولها دعاة تحرير المرأة؛ من أجل إشاعة التحلل والانحلال في المجتمعات الإسلامية تقليداً للمجتمعات الغربية التي يرون فيها الأسوة والقدوة.
يقول قاسم أمين: “ليس في الشريعة نص يوجب الحجاب، وإنما هي عادة أخذناها عن بعض الأمم”(1)، ويقول أحمد أمين: “إن القرآن ليس فيه آية واحدة تلزم المرأة بالحجاب ويأسف لعودة المرأة المصرية إلى الحجاب، ويعتبر هذه العودة ردة”(2).
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
الحجاب ثبتت فرضيته بالقرآن والسُنَّة
إن بيان بطلان هذه الشبهة ليس بالأمر العسير حيث إن حجاب المرأة المسلمة ثبتت فرضيته بالقرآن والسُنَّة، قال تعالى: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور:31)، ودلالة هذه الآية الكريمة من وجهين:
الوجه الأول: في قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ)، فالمرأة مطالبة بما ورد في هذه الآية بإخفاء زينتها عن الأجانب عنها، وقد تكرر النهى عن إبداء الزينة مرتين: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) وهذا نص قطعي الثبوت والدلالة في إيجاب الحجاب على المسلمة متى بلغت مبلغ النساء؛ بيد أن النهي في المرة الأولى قرن بالاستثناء هكذا (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) وفي هذا المقطع من الآية دلالتان:
إحداهما: قطعية لا خلاف فيها وهي إخفاء الزينة إلا عن الزوج والمحارم. والثانية: احتمالية وهي: (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فالاستثناء هنا صريح على أن بعض الزينة جائز إظهارها(3).
وقد اختلف العلماء في مقدار الزينة التي لا حرج في ظهورها كما هو نص الآية الكريمة -الخلاف هنا حول مقدار الزينة وليس حول فرضية الحجاب- فذهب جماعة من العلماء إلى أن الزينة المرخص في ظهورها هي الثياب التي ترتديها المرأة وهو قول عبد الله بن مسعود ومن وافقه(4).
وذهب آخرون إلى أن الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، راجع إلى الوجه والكفين، وهذا قول جمهور العلماء من الصحابة والتابعين(5).
الوجه الثاني: قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، قال الإمام القرطبي يرحمه الله: “إنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة، وذلك في الصلاة والحج فيصلح أن يكون الاستثناء راجع إليهما”(6).
وقد وردت أحاديث تؤيد هذا الرأي، منها:
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “أَرْدَفَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الفَضْلَ بنَ عَبَّاسٍ يَومَ النَّحْرِ خَلْفَهُ علَى عَجُزِ رَاحِلَتِهِ، وكانَ الفَضْلُ رَجُلًا وضِيئًا، فَوَقَفَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِلنَّاسِ يُفْتِيهِمْ، وأَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ مِن خَثْعَمَ وضِيئَةٌ تَسْتَفْتي رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَطَفِقَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا، وأَعْجَبَهُ حُسْنُهَا، فَالْتَفَتَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهَا، فأخْلَفَ بيَدِهِ فأخَذَ بذَقَنِ الفَضْلِ، فَعَدَلَ وجْهَهُ عَنِ النَّظَرِ إلَيْهَا، فَقَالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ في الحَجِّ علَى عِبَادِهِ، أدْرَكَتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا، لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْتَوِيَ علَى الرَّاحِلَةِ، فَهلْ يَقْضِي عنْه أنْ أحُجَّ عنْه؟ قَالَ: نَعَمْ”(7).
قال ابن حجر: “في هذا الحديث دليل على أن ستر المرأة وجهها ليس فرضاً لإجماعهم على أن للمرأة أن تبدي وجهها في الصلاة ولو رآه الغرباء”(8).
وأما قول بعض الفضلاء: “ليس في الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها، فما أبعد الأقوال عن الصواب، إذ لو لم يكن الأمر كذلك فمن أين للراوي أن يعرفها أنها امرأة حسناء وضيئة ولو كان الأمر كما قال: فإلى ماذا كان ينظر الفضل ويكرر النظر؟، والحق أن هذا الحديث من أوضح الأدلة وأقواها على أن وجه المرأة ليس بعورة، لأن القصة وقعت في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وعلى مشهد منه صلى الله عليه وسلم مما يجعل الحكم ثابتاً محكماً”(9).
2- ومن الأحاديث ما رواه البخاري بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ : يا رَسولَ اللَّهِ، جِئْتُ لأهَبَ لكَ نَفْسِي، فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ إلَيْهَا وصَوَّبَهُ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَأَتِ المَرْأَةُ أنَّه لَمْ يَقْضِ فِيهَا شيئًا جَلَسَتْ، فَقَامَ رَجُلٌ مِن أصْحَابِهِ، فَقالَ: أيْ رَسولَ اللَّهِ، إنْ لَمْ تَكُنْ لكَ بهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا، فَقالَ: هلْ عِنْدَكَ مِن شيءٍ؟ قالَ: لا واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: اذْهَبْ إلى أهْلِكَ فَانْظُرْ هلْ تَجِدُ شيئًا فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقالَ: لا واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ ما وجَدْتُ شيئًا، قالَ: انْظُرْ ولو خَاتَمًا مِن حَدِيدٍ..” (10).
3- ومن الأحاديث التي لها دلالتها هنا ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: “شَهِدْتُ مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ الصَّلَاةَ يَومَ العِيدِ، فَبَدَأَ بالصَّلَاةِ قَبْلَ الخُطْبَةِ، بغيرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا علَى بلَالٍ، فأمَرَ بتَقْوَى اللهِ، وَحَثَّ علَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ مَضَى حتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، فَقالَ: تَصَدَّقْنَ؛ فإنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ، فَقَامَتِ امْرَأَةٌ مِن سِطَةِ النِّسَاءِ -أي مِن وَسَطِ النِّساءِ- سَفْعَاءُ الخَدَّيْنِ، -أي: تغيَّرَ لَونُ خَدَّيْها إلى السَّوادِ- فَقالَتْ: لِمَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: لأنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ، -أي: تُنْكِرْنَ فضْلَ أزواجِكُنَّ- قالَ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِن حُلِيِّهِنَّ؛ يُلْقِينَ في ثَوْبِ بلَالٍ مِن أَقْرِطَتِهِنَّ وَخَوَاتِمِهِنَّ”(11).
فمن أين لجابر رضي الله عنه أن يعرف أنها سفعاء الخدين إذا كان وجهها مغطى بالنقاب(12)؟!
على أن قوله تعالى فيما بعد: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) يدل على ما دلت عليه الأحاديث السابقة من عدم وجوب ستر المرأة لوجهها لأن “الخُمر” جمع خمار وهو ما يغطى به الرأس، و”الجيوب” جمع “الجيب” وهو موضع القطع من الدرع والقميص وهو من الجوب وهو القطع فأمر الله تعالى بليِّ الخمار على العنق والصدر، فدل على وجوب سترهما، ولم يأمر بلبسه على الوجه فدل على أنه ليس بعورة، ولهذا قال ابن حزم يرحمه الله: “فأمرهن الله تعالى بالضرب بالخمار على الجيوب، وهذا نص على ستر العنق والصدر، وفيه نص على إباحة كشف الوجه لا يمكن غير ذلك”(13).
والقول بعدم وجوب النقاب لا يعنى عدم جوازه، فللمرأة الحرية في ذلك، بل قد يستحب لها النقاب إذا كانت جميلة تخشى الافتتان، بل ذهب كثير من العلماء إلى وجوب ذلك عليها، كما أنه لا تلازم بين كشف الوجه وإباحة النظر إليه، لأن الله تعالى فرض غض البصر على الرجل والمرأة.
فهل يقال بعد هذا أن القرآن ليس فيه آية تأمر بالحجاب؟ أليست هذه آية من القرآن الكريم يا أصحاب القلوب المريضة؟!
_____________________________
(1) كتب قاسم أمين كتابين عن المرأة (تحرير المرأة) سنة (1899)، و(المرأة الجديدة) سنة (1900) وهما كتابان يطالب فيهما بنزع حجاب المرأة المسلمة.
انظر: كتاب: “قاسم أمين وتحرير المرأة” – المؤلف: د. محمد عمارة – 1/53.
(2) انظر كتاب: “المؤامرة على المرأة المسلمة” – المؤلف: د. السيد أحمد فرج – 1/133.
(3) كتاب: “المرأة المسلمة في عصر الرسالة” – المؤلف: د. عبد العظيم المطعني – 1/24.
(4) كتاب: “الدر المنثور في التفسير المأثور” – المؤلف: جلال الدين السيوطي – 6/180.
(5) ذهب جمهور الفقهاء مالك وأحمد والشافعي وأبو حنيفة إلى أن جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها- كتاب: “الفقه الواضح” – المؤلف: د. محمد بكر إسماعيل – 1/173.
(6) تفسير القرطبي ج 7 ص 4621.
(7) أخرجه البخاري (6228)، ومسلم (1334).
(8) فتح الباري بشرح صحيح البخاري – 11/13.
(9) “حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة” – المؤلف: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – 1/29.
(10) صحيح البخاري (5126).
(11) أخرجه البخاري (961)، ومسلم (885).
(12) فتاوى معاصرة – د. يوسف القرضاوي – 2/323.
(13) حجاب المرأة المسلمة – محمد ناصر الدين الألباني – 1/34،33.