أسهم المجال البحثي الغربي المعاصر في العلوم الاجتماعية بدور تنظيري بارز في تغيير النظر إلى الأسرة وأدوار أعضائها، وأنشطتهم التاريخية، إلى الحد الذي يمكن القول فيه: إن هذه البحوث والإسهامات تدعو إلى تفكيك مفهوم الأسرة بمفهومه التقليدي والتاريخي، وكان لتيارات «الفردانية»، و«الليبرالية»، دور بارز في انضواء هذه الجهود البحثية تحت عباءتها.
إن الفلسفات الجديدة والأفكار التي نتجت منها تشكل العامل الأساسي في التبدلات الثقافية التي حصلت في العالم الغربي؛ حيث تركت «الأفكار الليبرالية» و«الفردانية» -التي تعد أساس النهضة الفكرية في الثقافة الغربية المعاصرة– آثاراً عميقة في جميع جوانب الحياة الاجتماعية؛ ما جعل العائلة أيضاً تقع تحت تأثير هذه الأفكار.
إن الحركة النسوية في النصف الثاني من القرن العشرين ساهمت في توسيع نطاق المسائل المتعلقة بالنساء، بالأخص ما يتعلق بالمشكلات الأسرية، فقد رفض أتباع هذه الحركة استغلال النساء داخل المنزل، وجعلوا القيم التقليدية للعائلة في مواجهة مجموعة كبيرة من التحديات، وأطلق البعض في الغرب على الزواج عنوان «العبودية والاعتداء القانوني والعمل المجاني»، واعترضوا بشكل أساس على اعتبار رعاية الأبناء والاهتمام بالشؤون المنزلية هي الوسائل الوحيدة لكمال النفس عند المرأة(1).
من مرتكزات النظرة الجديدة للأسرة التي روَّجت لها الأنشطة البحثية الغربية في تيار النسوية الغربية، تغيير النظرة إلى هوية «الأسرة» وأسس/ منطلقات قيامها، فتتحول النظرة من كون الأسرة تقوم على أساس إنساني، ورابطة معنوية، إلى إحلال المنطق المادي في النشأة، ومن ثم تكون الأسرة عبارة عن شركة صغيرة تتساوى فيها الحقوق والواجبات وتتطابق في ظل ضمانات مادية بحتة.
ينظر المجتمع الغربي إلى الزواج المتعارف بصيغته الحالية وكأنه علاقة مشاركة في تدبير شؤون البيت، وليس اقتراناً وتقارباً بين الرجل والمرأة، وينظر إليهما وكأنهما موجودان مستقلان يعيشان سوياً تحت سقف الأسرة، إن تركيز الغرب على حرية المرأة وكمالها وقيمها الإنسانية يصب في مسار أصالتها الفردية؛ بمعنى أنه يُخرِج المرأة من البيت ويعترف لها بحقوق خاصة وأصيلة، وهذا ما ينتهي تلقائياً إلى القول بأصالة الفرد، والقول بأصالة الفرد في العالم الغربي زعزعت المجتمع بصفته كياناً كاملاً ومتلاحماً واستحالت اليوم إلى كيانات متداعية وإلى نزعات فردية مفككة(2).
اقتسام السلطة الوالدية
وتشير «مارتين سيجالين» إلى جانب من ذلك بقولها(3): إنه في عام 1987م –في فرنسا– تم وضع قانون اقتسام السلطة الوالدية بين الزوجين، وفي عام 2002م تم وضع قانون ينص على عطلة الأبوة (للرجال)، وعلى تعميم مبدأ اقتسام السلطة الوالدية، وعلى فتح إمكان إقامة الطفل عند والديه بالتناوب، وكذلك محاولات أخيرة لاقتسام الاسم العائلي، وترى أن هذه المحاولات تسهم في تطوير المساواة بين الجنسين داخل العلاقة بين الرجل والمرأة، وأنها تروم إلى تسليط الضوء على أولوية الفرد في المؤسسة الأسرية، وتنظيم المساواة بين الوالدين بخصوص مسؤولياتهم التربوية، والحفاظ على الروابط التي تجمع الطفل بوالديه بعد الانفصال، ثم تذكر أننا دخلنا إلى عصر اللازواج، وتغيير نقطة التوازن في نظام القرابة، وترى أن ازدياد النزوع إلى الفردانية لم يضعف أهمية المساعدات الأسرية، إذ توضح البحوث متانة الروابط التي تجمع بين الأجيال متمثلة بتقديم مساعدات منتظمة.
وعن البنوة –في ضوء هذا التفكيك– تؤكد مارتين أن اللازواج غيَّر من مكانة الطفل، كان الطفل في السابق يعتبر كشيء بديهي يحصل بعد الزواج، أما في ضوء هذه التغيرات فصار ميلاده مبرمجاً، وهو الذي يشكل الأسرة؛ حيث إن 60% من الأطفال الأوائل يولدون خارج نطاق الزواج، ثم تطرح مفهوماً بديلاً للزوجين وهو «القرينان»، وتذكر في ذلك أن التنشئة الاجتماعية للقرينين بعد أن كانت مسألة حميمية وخاصة، صارت مسألة عمومية؛ فالأشخاص يكونون غرباء عن بعضهم بعضاً إلى حين حدوث ولادة، وبعد الولادة يتحولون إلى «أزواج»(4).
ومن المظاهر التي أصبحت ترسم خارطة الحياة الاجتماعية الغربية في ظل هذه التطورات الثقافية الغربية ظاهرة الاقتران غير الزواجي بين الجنسين، ووجود أطفال خارج نطاق الزوجية المتعارف عليه، وهي ظاهرة مثلت –وما زالت- خطورة على التكوين الاجتماعي الغربي، بالإضافة إلى حدوث أشكال اقتران بين الجنس الواحد، ووجود المساندة القانونية لهذا الاقتران، ومن ثم تكون إشكالية الأسرة أكثر تعقيداً.
ظاهرة «المعاشرة»
لقد انتشرت في المجتمعات الغربية بالعقود القليلة الماضية ظاهرة «المعاشرة» التي يعيش فيها رجل وامرأة بالغان سوياً، ولمدة طويلة نسبياً تحت سقف واحد حياة زوجية بكل المقاييس من دون الارتباط رسمياً برابطة الزواج، وقد أُسبغ الطابع القانوني على جوانب عديدة؛ فهذه العلاقة التعايشية مثل حقوق التملك والإرث في عدد من المجتمعات الغربية، كما بدأت تنتشر في عدد من المجتمعات الغربية ظاهرة التساهل والتسامح تجاه العلاقات «الجنسية المثلية» من الرجال والنساء، وإن عدداً قليلاً من البلدان الغربية قد أسبغت على مثل هذه العلاقات صفة القانونية في كثير من النواحي(5).
جاءت دعاوى وقوانين وبحوث تفكيك الأسرة باعتبارها الملجأ الأساس والأخير للإنسان، والحيز الذي يحقق المجتمع بداخله استمرارية الهوية والمنظومة القيمية، وتتكفل جماعات التمركز حول الأنثى وجماعات الدفاع عن الإباحية باعتباره شكلاً من أشكال الإبداع، بهذا الجانب من عملية التفكيك(6).
وتحاول هذه الدعوات أن تجد لها مكاناً سواء من خلال نخب ثقافية، أو مؤسسات إعلامية، أو ضغوطات على إرادات الحكومات، ورغم محدودية تأثيرها فإنها ترمي إلى تحقيق أهدافها بصورة تدريجية في الواقع الإسلامي، وربما نجحت في قطاع ضئيل من المجتمعات الإسلامية، إلا أن تلك الدعوات لا تجد لها حواضن بين الشعوب التي ما زالت تتحصن بالتقاليد الإسلامية في مجال العلاقات بين الجنسين بصورة عامة وكلية، حيث ما زال لقيم «الحرام» و«العيب» صدى في واقع تلك المجتمعات، وإن كان الواقع لا يخلو من الشعور بالخطر تجاه التبني الإعلامي والسياسي المفروض من هذه الدعوات، ولا سيما في ظل العولمة ومخاطرها الثقافية على الإنسان المسلم الفرد والجماعة والأمة، والممارسات السياسية القهرية من قبل أمريكا والغرب.
_______________________________________
(1) حسين بستان: الإسلام والأسرة: دراسة مقارنة في علم الاجتماع الأسري، ص145.
(2) علي شريعتي: مسؤولية المرأة، ص65.
(3) مارتين سيجالين: «الأسرة.. نهاية النموذج الوحيد»، ترجمة: مصطفى قمية، مجلة إضافات، العددان (41-42)، مركز دراسات الوحدة العربية، 2018، ص242 – 243.
(4) المرجع السابق، ص244.
(5) أنتوني غدنر: علم الاجتماع، ص266.
(6) عبدالوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، ص169.