أصابه الأرق وأعياه التفكير، وأعجزته الحِيَل، وهو يتململ في فراشه لا يغمض له جفن، ولا يهدأ له بال، حاول أن ينام أو يتظاهر أنه نائم لكن النوم أبَى أن يداعب عينيه، وعانده بشدة وكأنه له عدو! فانتزع نفسه من هذا الأرق ومن فراشه الحار الذي كأنه جمرة من لهب يتقلب عليها في ألم، ويحترق معها في صمت، قام ليطفئ هذا اللهيب بالوضوء، وقف على سجادة الصلاة بذُلٍّ وخشوع، وحب وخضوع؛ ليناجي ربه القادر العظيم سبحانه، شاكياً إليه حاله ومَن أوصله إلى هذه الحال، رفع يديه يدعوه، ويستغيث به ويستعيذ من قهر الرجال، يشكو إليه مَن غلبه وظلمه، وقهره واستضعفه، بينما هو لا يملك من أمره شيئاً إلا الدعاء، عسى الله تعالى الملك القوي أن يدفع عنه ما حلَّ به من ظلم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قهر الرجال، وقد علَّم الصحابي الجليل أبا أمامة رضي الله عنه أن يستعيذ بالله من ذلك، لِما ينتج عن هذه الأمور من عواقب سيئة على صحة الأفراد البدنية والنفسية، وعلى استقرار الأسَر وسعادتها، وترابط المجتمعات وتآلفها.
القهر بالمال:
وللقهر أسباب متعددة، وله أشكال شتى، وقد يقع على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدول، فقد يتقوَّى الإنسان على غيره بالمال الكثير الذي يملكه، فيسيطر على أقوات الناس ويتسلط على أرزاقهم بالاحتكار والغلاء والخداع والغش، وبالربا والدَّين، فيقهرهم مع ذلك بالجوع والحاجة والفقر، ويجرّهم إلى الخضوع والمهانة والذل.
وكان الأوْلى بصاحب المال أن يستخدمه فيما يُصلح به شأنه ويُغني به غيره، وينفع به بلده، ويرفع به أمته، لا أن يكون المال له بلاء وفتنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وإِنَّ هذا المالَ خضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَنِعْمَ صاحِبُ المسلِمِ هُوَ؛ لِمَنْ أَعْطَاهُ المسكينَ واليتيمَ وابنَ السبيلِ، فمَنْ أخذَهُ بِحَقِّهِ؛ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ المعونَة هُو، وَمَنْ أَخَذَهُ بغيرِ حقِّهِ، كان كالذي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، ويكونُ عليه شهيداً يومَ القيامَة” (صحيح الجامع).
القهر بالقوة:
وقد يحصل القهر بالقوة مهما كانت صورتها، فيبطش القوي بالضعيف ويؤذيه دون حق، وكأنه يستعرض عضلاته ويتباهى بقوته، وقد كان الأوْلى أن يستخدمها فيما ينفع به نفسه ويعين بها غيره ويُعلي بها مجتمعه وأمته، وأن يكون عوناً للضعفاء والمظلومين وذوي الحاجة، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “وعَونُكَ الضعيفَ بفَضلِ قُوَّتِكَ صَدَقةٌ” (رواه أحمد).
ومن القوة أيضاً القوة الاجتماعية التي تجعل المرء قوي النفس أمام غيره لما يتمتع به من نسب وحسب أو جاه ومنصب، وقد تتسبب هذه القوة حين يُساء استخدامها في قهر بعض الناس ممن يفتقدونها، فيفعل هذا القوي ما لا يستطيع الضعيف له دفعاً، فينظر لغيره نظرة دونية طبقية لا تخلو من ازدراء، بل قد يتسلط عليه بهذه القوة في أي وقت، فيسخره في حاجته ومنفعته، أو يسلبه حقاً من حقوقه ويضيعه أو ينقصه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ” (رواه مسلم).
ومن صور قهر الرجال: اتهام البريء بالشبهة والظن، وكتمان الشهادة ممن يعلمها، والشهادة بالزور، والدفاع عن الظالم وتبرئته ضد المظلوم، وحكم القاضي على المتهم دون استيفاء ما يوجب صحة هذا الحكم؛ مما يؤدي إلى حبس المتهم وتعذيبه نفسياً وجسدياً واجتماعياً، ظلماً وعدواناً، وقد نهى الله تعالى عن كتمان الشهادة فقال: ﴿وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: 283).
القهر الأسَري:
وقد يظهر قهر الرجال في محيط الأسرة خاصة مع الإناث حين يمنع الأب زواج ابنته ممن هو كفء لها ويعضلها عن الزواج طمعاً في خدمتها له بنفسها أو مالها، أو لأي سبب آخر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا أتاكم من تَرضَون دِينَه وخُلُقَه فأنكِحوه إن لا تفعلُوه تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبير” (رواه الترمذي)، وكذلك قهر الإناث المتمثل في حرمانهن من الميراث، وقد يحصل الحرمان في حياة الوالدَين حين يبيعان ما يملكان أو يهبانه لأحد الورثة دون الباقين، قال سبحانه: ﴿لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ﴾ (النساء: 7).
وقد تتعرض الزوجة أيضاً لقهر الرجال حين يصر الزوج على عدم القيام بواجبه تجاهها من عِشرة بالمعروف، ونفقة ورعاية، وإعفاف ومودة، فإن طالبت بذلك أو ببعضه تعسف في طلب حقه عليها في طاعته دونما قيد أو شرط، وخيَّرها بين التنازل عن حقها وبين طلاقها وحرمانها من أطفالها، أو تركها معلقة، وقد يصل الأمر إلى إيذائها جسدياً ومعنوياً فيقهرها بذلك، فهذا الفعل ليس من حسن العشرة التي أمر الله بها الأزواج في قوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (النساء: 19)، وكذلك قد يقع القهر من الزوجة لزوجها حين تصر على عدم القيام بحقه أو تخيره بينها وبين أمه أو أهله، أو تطالبه بالاستدانة من أجل مطالبها التي تسرف فيها؛ فتقهره بغلبة الدين وقهر الدائنين، فيقف حائراً مقهوراً.
وكما يقع القهر على الكبار، فقد يقع على الأطفال من قِبَل الوالدين أو أحدهما حين تحصل الفرقة بينهما، وقد تكون لأسباب يمكن علاجها أو التعايش معها، فيحصل الطلاق دون مراعاة حقوق هذا الطفل ومصلحته ومشاعره، ومنع الطفل من رؤية أبيه أو أمه في ظل هذه الخلافات الزوجية فينام مقهوراً ويصحو على القهر.
ومن القهر ما يقع على الأطفال أيضاً فضلاً عن الكبار، من قهر أثناء الحروب حيث يحصل لهم التهجير القسري والتشرد واليتم والعجز والمرض والجوع والعطش، فيعيشون غرباء في مجتمعات قد لا تقبلهم، وكل ذلك يقهرهم ويؤلمهم.
وقد يشعر البعض بالقهر النفسي الشديد عند إعاقتهم البدنية أو العقلية، أو عند الشيخوخة، وذلك حين يعامَلون معاملة غير إنسانية تخلو من الرحمة والكرامة.
ومهما كانت أسباب القهر وأشكاله، فإن الشعور به يضع الإنسان في دائرة الاستضعاف والعجز، ويؤدي به إلى الاكتئاب والحزن، وتذوُّق مرارة الظلم، فعلى المسلم أن يتخذ من الأسباب ما يجنبه الوقوع في ظلم غيره وقهره، كما أن عليه أن يبتعد عن الأسباب التي تجعل غيره يتسلط عليه بماله أو بقوته أو بمنصبه أو جاهه أو غير ذلك.
لا تظلم.. واتقِ دعوة المظلوم:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ” (رواه مسلم)، وحذر من دعوة المظلوم فقال: “إياكم ودعوةَ المظلومِ، وإِنْ كانتْ مِنْ كافِرٍ؛ فإِنَّه ليسَ لَها حجابٌ دونَ اللهِ عزَّ وجلَّ” (صحيح الجامع)، فالله تعالى الواحد القهار سوف يستجيب للمقهور ويأخذ له حقه ممن ظلمه، في الدنيا وفي الآخرة.