ما إن لاحظ سكان بعض المدن المطلة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، خلال الأيام الماضية، انحساراً كبيراً في مياه البحر عن الشواطئ حتى راجت أحاديث مكرورة عن اقتراب حدوث تسونامي يأكل الأخضر واليابس، وربطه بزلزال تركيا وسورية المدمر، باعتبار تلك الظواهر الطبيعية الغريبة من «علامات آخر الزمان» التي تنبأ بها الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام، فيما عرف في كتب السُّنة بـ«أحاديث الفتن والملاحم».
وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد تراجع مياه البحر لعدة أمتار، بمحاذاة الخط الساحلي اللبناني، وفي شواطئ مدينة العريش بمحافظة شمال سيناء بمصر، وشواطئ مدينة عكا بفلسطين، مقرونة بتلك الأحاديث وربطها بالزلزال الأخير الذي وقع في تركيا وسورية، وعدم توفر الشروط العلمية بحدوث تسونامي.
فالتسونامي مجموعة من الأمواج العاتية تنشأ من تحرك مساحة كبيرة من المياه، وأحد أسبابه الزلازل، ولكن بشرط أن يكون مركز الزلزال قاع البحر، وأن تكون حركة القشرة الأرضية أثناء الزلزال عمودية وليست أفقية، وهو ما لم يتحقق في الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا، في 6 فبراير الماضي، حسبما أكدت إلهام محمود، خبيرة البيئة وعلوم البحار بالأمم المتحدة، لصحيفة «الشرق الأوسط».
وفي السياق ذاته، أكد رئيس المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد عمرو زكريا أنّ انحسار مياه البحر الأبيض المتوسط في محافظة الإسكندرية، شمالي مصر، وعدد من المدن المطلة عليه، ما هو إلا بسبب تغيّر في ضغط الجو بمقدار 20 باراً، الذي بالتبعية يؤدي إلى انخفاض البحر بنسبة 20 سنتيمتراً، وفقاً لما نقلته شبكة «CNN».
وأشار إلى أن انحساراً آخر، بمقدار 30 سنتيمتراً، جرى في منسوب مياه البحر نتيجة عملية المد والجزر، وبالتالي فإن ما حدث هو اندماج لعمليتي «المد والجزر»، و«تغيّر الضغط» لتنحسر المياه بمقدار 52 سنتيمتراً في مدن، وبمقدار عدة أمتار في مدن أخرى.
ورغم الإجماع العلمي على عدم صحة التسونامي المزعوم، فإن أحاديث الفتن والملاحم ظلت حاضرة في خطاب ديني أصبح ظاهرة فكرية قرينة لحدوث الظواهر الطبيعية الغريبة في مجتمعاتنا الإسلامية.
بل إن بعض حسابات مواقع التواصل الاجتماعي اخترعت سبباً علمياً مكذوباً لانحسار مياه البحر المتوسط، وربطت بينه وبين التسونامي المزعوم وزلزال تركيا وسورية، وادعت أن الزلزال تسبب في شق تحت سطح البحر، تسبب في انحسار المياه بكمية كبيرة، وأسقطت أحاديث الفتن والملاحم على هذه الخلطة للزعم بأننا في آخر الزمان.
إسقاط بلا دلالة
ويقصد بالفتن والملاحم ما نسب إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم من أحاديث متعلقة بأحداث مستقبلية قريبة أو بعيدة زمانياً من عصر النبوة، وبعضها محدد المكان دون الزمان، وبعضها مجهول الزمان والمكان، وبالتالي فإن أغبها لا يمكن أن يكون دالاً على آخر الزمان، حسبما نقلت وكالة «الأناضول» عن عبدالفتاح خضر، أستاذ أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر.
كما أن الجزم بموعد لنهاية الزمان يتناقض مع التأكيد القرآني على أن الساعة «لا تأتيكم إلا بغتة»؛ ولذا، فإن ما صح من أحاديث الفتن والملاحم حري بأن يكون حافزاً للاستعداد والعمل ومحاربة اليأس والإحباط، وهو معكوس الخطاب الديني السائد تزامناً مع حدوث الظواهر الطبيعية الغريبة.
ويشير خضر، في هذا الصدد، إلى أن الخطاب الديني الصحيح هو المستند إلى التوجيهات النبوية الصريحة والمباشرة، وليست على نبوءات غير محددة الزمان والمكان، وهو ما اصطلح العلماء على تسميته «خطاب الفسيلة»، في إشارة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها».
فالخطاب الديني الصحيح هو ذلك الذي يحفز الهمم بالاستعداد للآخرة والعمل من أجل تعمير الأرض، وليس الاستسلام أو بث الخوف والذعر بين الناس، وتخديرهم عن العمل بزعم نهاية الزمان، وهو ما حذر منه خضر، مؤكداً أن الركون إلى أحاديث الفتن والملاحم بما يؤدي إلى الخزي والضعف والاستسلام وطمع أعداء الإسلام في المسلمين أمر مرفوض شرعاً، ومن يفعله آثم.
خطاب الإحباط
لكن، لماذا ساد هكذا خطاب في أوساط المتدينين؟ يجيب عبدالمقصود باشا، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، بأن نزع الأحاديث النبوية من سياقاتها الزمانية والمكانية ديدن بعض العوام وبعض المنتمين للحركات الدينية المتطرفة عبر التاريخ، إذ يعطيهم مثل هذا الخطاب مبرراً لمواقفهم الخاصة بالخضوع لأعداء الأمة أو لتبرير العنف والتطرف.
وأشار إلى أن مكرورة إسقاط أحاديث الفتن والملاحم على الواقع تكررت في التاريخ الإسلامي كثيراً، خاصة وقت الحروب الصليبية وهجمات المغول، وعادة ما تكون خطاباً سائداً عادة ما يكون في عصور التراجع الحضاري والعسكري لتبرير الضعف والتخلف والذلة التي يكون عليها المسلمون، أما في عصور القوة والازدهار والتقدم فعادة ما يتوارى اللجوء إلى تلك الأحاديث، خاصة أن معظمها غير محدد الزمان أو المكان أصلاً.
أما أستاذ علم النفس في كلية الآداب بجامعة عين شمس المصرية محمد خطاب، فيشير إلى بُعد نفسي وراء رواج مثل هذا الخطاب الديني بين عوام المسلمين، وهو الإحباط الذي يصيب الشخص عند الفشل في القيام بعمل أو الإحساس بالقهر والظلم وعدم القدرة على الرد.
ويوضح خطاب أن مثل هذا الشعور يؤدي إلى فقدان الثقة بالنفس والتقليل من احترام الذات والخوف من التعامل مع الآخرين، وهو ما يسبب الهروب النفسي إلى دوافع ومبررات دينية يعزز بها الشخص خروجه من حالة الانهزام النفسي.
والحل إزاء هذه الحالة، بحسب خطاب، هو الخروج من حالة الإحباط من خلال ممارسة التأمل وتركيز العقل على حل المشكلات للتخفيف من الإحباط والتوتر، وتصنيف المشكلات، وتعلم مهارات للتخلص من الإحباط، والابتعاد عن الأشخاص المسببين له، والتقرب من الأشخاص الإيجابيين، وتطوير المهارات والإستراتيجيات التي تساعد على النجاح والتطور لبناء ثقة الشخص بنفسه.