يجب قتل من أعان الأعداء على المسلمين ودلَّ على عوراتهم وترتب على ذلك سفك دمائهم
- هناك فلسطينيون شذوا عن جماعتهم وخرجوا على صفهم، وخانوا قومهم، فتعاونوا مع اليهود الغاصبين، يكشفون لهم العورات، ويدلونهم على أماكن رجال المقاومة، فيسهلون لهم اغتيالهم، إلى غير ذلك من الأعمال التي لا يشك أحد في اتهام صاحبها بالخيانة، فما بيان الحكم الشرعي فيما يستحقه هؤلاء المجرمون؟
– انتساب هؤلاء إلى الفلسطينيين عار وشنار، فهذا الشعب الذي سجل بسطور من نور هذه البطولات الأسطورية التي لفتت أنظار العالم في جنين وغيرها، وأثبت رجاله ونساؤه وشبانه وشيوخه، كباره ورجاله هذا الصمود الخارق الذي لا يكاد يعرف له نظير في دنيانا المعاصرة، هذا الشعب لا يجوز أن ينسب إليه هؤلاء الذين لا يجوز أن ينسبوا إلى الفلسطينيين، ولا إلى العرب، ولا إلى المسلمين، فالجميع يبرأ منهم، والجميع يلعنهم، ناهيك عن لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
ولكن جرت سُنة الله في خلقه أن يكون في كل شعب خونة يبيعون آخرتهم بدنياهم، ويبيعون أمتهم بأعدائهم، حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك منافقون، قال تعالى: (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) (البقرة: 16).
ولقد اجتهد الكيان الصهيوني منذ زمن طويل في تجنيد عدد غير قليل من أبناء فلسطين، ليعملوا لحسابه، وتنفيذ خططه واستخدم في ذلك كل وسائل الإغراء والترغيب، وغسل المخ، وبذرهم في وسط أقوامهم ليقوموا بدور الخائن، فيتجسسوا على أهليهم لحساب عدوهم، ويدلوهم على مواطن رجال المقاومة، من “حماس”، و”الجهاد”، و”كتائب الأقصى”، وغيرهم من رجال الفصائل المناضلة، وكل رجل اغتيل من هذه الفصائل المجاهدة فإنما تم ذلك بمساعدة هؤلاء الخونة، الذين يعاونون أعداء أمتهم على الإثم والعدوان.
هؤلاء حكمهم حكم اليهود المحتلين؛ لأن ولاءهم لهم، وعونهم لهم، والله تعالى يقول: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة: 51).
بل الحق أني أرى هؤلاء شراً من اليهود الغزاة المعتدين، فإن اليهودي عدو واضح معروف، وهذا عدو من جلدتنا، ويتكلم بلساننا، فهو من المنافقين الذين قال الله عنهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (النساء: 145)، فالمنافق شر من الكافر ولا شك، فعبد الله بن أُبي شر من أبي جهل؛ لأن أبا جهل صرح بكفره فيحذر منه، أما ابن أُبي ومن سار في ركبه، فهم الذين ينخرون في عظام المجتمع، ويهدمونه من داخله.
ومن المقرر أن المنافق إذا استتر بنفاقه، وعمل أعمال المسلمين الظاهرة، عومل معاملة المسلمين، ووكل أمر سريرته إلى الله، وفقاً لقاعدة “أمرنا أن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر”، فإذا ظهر منه ما يؤذي المسلمين أخذ به، وعوقب العقوبة الرادعة، كما في قوله تعالى: (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً) (الأحزاب: 60)، وقد قرر الفقهاء أن عقوبة الجاسوس القتل، ولا سيما من يتجسس لعدوه على قومه.
قصة حاطب بن أبي بلتعة
وحينما أرسل حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة رسالة إلى أهل مكة يخبرهم فيها بمقدم الجيش المحمدي، واعتذر الرجل بكلام يدل على حسن نيته، وأنه لا يريد الضرر بالمسلمين، قال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه فقد نافق! فقال صلى الله عليه وسلم: “وما يدريك أن الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فإني قد غفرت لكم”!
وقد استنبط العلماء من قصة حاطب –كما قال ابن القيم– جواز قتل الجاسوس، وإن كان مسلماً؛ لأن عمر طلب قتل حاطب، وأجابه الرسول بأن ثمة مانعاً من قتله، وهو شهوده بدراً، وفي هذا الجواب تنبيه على مشروعية قتل الجاسوس إذا لم يكن عنده مثل هذا المانع، وهذا مذهب مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يقتل، ولكن يعزر.
وقال سحنون من المالكية: إذا كاتب المسلم أهل الحرب قتل ولم يستتب (أي: لم تطلب منه التوبة كما تطلب من المرتد).
وقال ابن القاسم: يُقتل، ولا يعرف لهذا توبة، وهو كالزنديق.
وقال غيرهما من أصحاب مالك: يُجلد جلداً وجيعاً ويطال حبسه، وينفى من موضع يقرب من الكفار.
وقال ابن القيم: والصحيح أن قتله راجع إلى الإمام، إن رأى قتله مصلحة للمسلمين قتله، وإن كان استبقاؤه أصلح استبقاه.
حجم الجريمة
ورأيي: أن أيضاً يرجع إلى مدى جريمة الجاسوس، ومقدار توغله في خدمة الأعداء ومساندتهم، وماذا ترتب على ذلك من مضار، كأن سهل قتل مسلم أو نحو ذلك.
ويجب أن يرد ذلك إلى محكمة مسلمة تنظر في جرائمهم، وتقيم حكمها على أساس البيّنات، لا على مجرد الدعاوى أو الشبهات، فمن أعان الأعداء على أهله وقومه، ودلَّ على عوراتهم، حتى ترتب على ذلك سفك دم حرام وجب أن يقتل لا محالة، لأنه شر من قطاع الطريق الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً.
ومن لم يبلغ هذه الدرجة عوقب بما يناسبه إذا ثبت عليه، وينبغي التشديد في الإثبات حتى لا يعاقب أحد بغير حق.
كما ينبغي فتح باب التوبة لمن تورط منهم في هذا الجرم، ثم تبين له خطؤه وخطيئته، وأن يُشجع على ذلك، فإن باب التوبة مفتوح، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
وقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج: 10).
فبرغم أنهم عذبوا المؤمنين والمؤمنات لم يحرمهم من التوبة، ولم يغلق بابها في وجوههم لو أرادوا.
وكما في موقف أبي لبابة رضي الله عنه، حينما أخبر اليهود بمصيرهم بعد انتهاء غزوة بني قريظة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد عزم على قتلهم، فلما سألوا أبا لبابة، ما يفعل فينا رسولكم؟ فلم يتكلم، إنما أشار إلى عنقه بيده كناية عن الذبح والقتل، فاعتبر أبو لبابة هذه الإشارة خيانة لله ورسوله وجماعة المؤمنين، فذهب إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وربط نفسه فيه حتى يقبل الله توبته، ونزل العفو عنه من الله، وقبول توبته، وقد أخبره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن صحا ضميره، وأراد أن يكفّر عن ماضيه فباب التوبة أمامه واسع، عسى الله أن يبدل سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً.
العدد (1517)، ص58 – 18 ربيع الآخر 1423ه – 29/6/2002م.