- هل كل ما يحدث للإنسان في الدنيا مكتوب عليه من الأزل؛ الموت والرزق، والنجاح والفشل، والسعادة والشقاء في الدنيا، وإنا كان من أهل الجنة أو أهل النار، وإذن، فما قيمة سعي الإنسان؟
– هذا السؤال سؤال قديم معروف، ويبدو أنه مهما طال الزمن سيظل يخطر على الأفئدة، ويدور على الألسنة، ولا داعي للحيرة في شأنه، فإن الإسلام قد شفى في جوابه وكفى، وسأعرض لهذه المسألة في النقاط التالية:
أ- أما أنَّ كل ما في الكون مكتوب مسجل، فهذا معلوم من الدين بالضرورة ولا شك فيه، وإن كنا لا نعلم كيفية الكتابة، وماهية الكتاب، وكل الذي نعلمه أن الله تعالى قد أبدع هذا الكون بأرضه وسمائه، وجماداته وأحيائه، على وفق تقدير أزلي عنده، وأنه أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، وأن كل ما يحدث في هذا الكون العريض يحدث وفق علمه وإرادته، قال تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (يونس: 61)، وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (الأنعام: 59)، وقال: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22).
ب- هذا العلم المستوعب، والإحصاء الدقيق، والتسجيل الشامل للأشياء والأحداث قبل وقوعها لا ينافي الاجتهاد في العمل واتخاذ الأسباب: فالله كما كتب المسببات كتب الأسباب، وكما قدر النتائج، قدر المقدمات، وحين سئل صلى الله عليه وسلم عن الأدوية والأسباب التي يتقي بها المكروه، هل ترد من قدر الله شيئاً، كان جوابه الفاصل: “هي من قدر الله” (رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه).
ولما انتشر الوباء في بلاد الشام قرر عمر –بمشورة الصحابة– العدول عن دخولها، والرجوع بمن معه من المسلمين، فقيل له: أتفر من قدر الله يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن نزلت ببقعتين من الأرض، إحداهما مخصبة والأخرى مجدبة، أليس إن رعيت المخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت المجدبة رعيتها بقدر الله؟!
جـ- القدر أمر مغيب مستور عناً:
نحن لا نعرف أن الشيء مقدَّر إلا بعد وقوعه، أما قبل الوقوع فنحن مأمورون بأن نتبع السنن الكونية، والتوجيهات الشرعية لنحرز الخير لديننا ودنيانا.
قال أحدهم:
إنما الغيب كتاب صانه
عن عيون الخلق رب العالمين
ليس يبدو منه للناس سوى
صفحة الحاضر حيناً بعد حين
وسنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيماناً بالله وقضائه وقدره، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ الحذر، وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون، وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو بنفسه، واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، وأعد الرواحل التي يمتطيها، والدليل الذي يصحبه، وغيَّر الطريق، واختبأ في الغار، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنة، ولم ينتظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل: “اعقلها وتوكل” (رواه ابن حبان بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية الضمري، ورواه ابن خزيمة والطبراني بإسناد جيد بلفظ “قيدها وتوكل”)، وقال: “فر من المجذوم فرارك من الأسد” (رواه البخاري)، وقال: “لا يوردن ممرض على مصح” (رواه البخاري)؛ أي لا يخلط صاحب الإبل المريضة إبله بالإبل السليمة، اتقاء العدوى.
د– الإيمان بالقدر، إذن، لا ينافي العمل والسعي والجد في جلب ما نحب، واتقاء ما نكره، فليس لمتراخ أو كسلان أن يلقي على القدر كل أوزاره وأثقاله، وأخطائه وخطاياه، فهذا دليل العجز والهرب من المسؤولية، ورحم الله د. محمد إقبال إذ قال: “المسلم الضعيف يحتج بقضاء الله وقدره، أما المسلم القوي فهو يعتقد أنه قضاء الله الذي لا يرد، وقدره الذي لا يغلب”.
وهكذا كان المسلمون الأولون يعتقدون.
في معارك الفتح الإسلامي دخل المغيرة بن شعبة على قائد من قواد الروم فقال له: من أنتم؟ قال: نحن قدر الله، ابتلاكم الله بنا، فلو كنتم في سحابة لصعدنا إليكم، أو لهبطتم إلينا!
ولا ينبغي أن يلجأ الإنسان إلى الاعتذار بالقدر إلا حينما يبذل وسعه، ويفرغ جهده وطاقته، وبعد ذلك يقول: هذا قضاء الله.
غلب رجل آخر أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال المغلوب: حسبي الله، فغضب النبي، ورأى ظاهر هذه الكلمة إيماناً، وباطنها عجزاً، فقال: “إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله” (رواه داود).
هـ- ثمرة الإيمان بالقضاء والقدر:
من ثمرته –حينما يبذل الإنسان كل ما تحت يده، ويرتقب ما في يد الله– أن يهبه المضاء في موقف اليأس، والعزيمة في مجال الكفاح، والشجاعة ساعة الخطر، والصبر عند الصدمة، والرضا بالكسب الحلال عند تفاوت الحظوظ الدنيوية.
إنه سيقول عند الكفاح: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا) (التوبة: 51).
وسيقول عند المعركة: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) (آل عمران: 154).
وسيقول عند المصيبة: قدر الله وما شاء فعل.
وسيقول للسلطان الجائر: إنك لن تقدِّم أجلي، ولن تحرمني رزقاً هو لي.
إن عقيدة القدر إذا فهمت على وجهها الصحيح تستطيع أن تخلق من أمتنا أمة مجاهدة صامدة، جديرة بأن تقود زمام التاريخ.
العدد (1518)، ص58 – 7 رجب 1423ه – 14/9/2002م.