- وعدت صديقتي بأن أزورها في يوم معين، فلما جاء ذلك اليوم شغلتني بعض الشواغل العائلية، فلم أقم بزيارتها، فلما قابلتها استحييت منها، فاعتذرت بأن ضيوفاً قدموا عليَّ فجأة، فلم أتمكن من مغادرة المنزل، فهل هذا اللون من الكذب الذي يسمونه “الكذب الأبيض” حرام؟
– لا أجد هنا متسعاً للرخصة في الكذب وإن سماه الناس أبيض، إلا في حدود ضيقة سأبينها بعد.
فالإسلام يحذر من الكذب بوجه عام، ويعده من خصال الكفر أو النفاق، ففي القرآن نقرأ: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل: 105).
وفي السُّنة: “آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر” (رواه الشيخان)، وفي رواية لمسلم: “وإن صلى وصام رغم أنه مسلم”.
وجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً: “الكذب مجانب الإيمان” (رواه البيهقي وصحح الموقوف).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب” (رواه البزار وأبو يعلى، ورواته رواة الصحيح والدارقطني مرفوعاً وموقوفاً، وقال: الموقوف أشبه بالصواب).
وفي حديث مرسل رواه مالك: قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن جباناً؟ قال: “نعم”، قيل له: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: “نعم”، قيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: “لا” (رواه مالك مرسلاً عن صفوان بن سليم).
وهذا كله يدلنا على مدى نفور الإسلام من الكذب وتربية أبنائه على التطهر منه سواء ظهر من ورائه ضرر مباشر أم لا، يكفي أنه كذب، إخبار بغير الواقع وتشبُّه بأهل النفاق.
وليس من اللازم ألا يلتزم الناس الصدق إلا إذا جر عليهم مضرة، فالتمسك بالفضيلة واجب، إن كان وراءها بعض الضرر الفردي المباشر، واتقاء الرذيلة واجب وإن أدرت بعض النفع الآني المحدود.
وإذا كان الإنسان يكره أن يكذب عليه غيره، يخدعه باعتذارات زائفة وتعللات باطلة، فواجبه أن يكره من نفسه الكذب على الآخرين، على قاعدة: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.
على أن من أكبر وجوه الضرر في الكذب أن يعتاده اللسان، فلا يستطيع التحرر منه، وهذا هو المشاهد الملموس.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحذرنا من ولوج هذا الباب الذي ينتهي بصاحبه بعد اعتياد دخوله إلى أن يكتب عند الله من الكذابين، فيقول: “عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً” (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي وصححه واللفظ له).
غير أن الإسلام –منهج الله الذي يعلم طبيعة الحياة، وضرورات الناس فيها– قد رخص في الكذب في مواضع معينة مراعاة لطبيعة البشر، وتقديراً لما ينزل بهم من ضرورة قاهرة أو حاجة ملحة.
ولم أجد من وضّح هذا الجانب ووفاه حقه من البحث والشرح مثل الإمام أبي حامد الغزالي في موسوعته الإسلامية “إحياء علوم الدين”، ويحسن بي أن أنقل هنا مقتطفات من حديثه بلفظه، لما فيها من التحقيق والبيان حيث يقول: “الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً، فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً.
ومهما كان لا يتم مقصود الحرب، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه، إلا بكذب؛ فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة.
والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: “ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب، إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته، والمرأة تحدث زوجها” (أخرجه مسلم)، وقالت أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً، أو ينمي خيراً” (متفق عليه)، وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل الكذب يكتب على ابن آدم، إلا رجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما” (أخرجه أحمد بزيادة فيه وهو عند الترمذي مختصر وحسنه).
قال: “فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له، أو لغيره”.
أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله، فله أن ينكره.
وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم، ثم هو لزيادات المال والجاه، حتى إن المرأة لتحكي من جهة ما تفخر به، وتكذب وتكذب لأجل مراغمة الضرات (أو الزميلات)، وذلك حرام.
وقالت أسماء بنت أبي بكر: سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل، أضارها بذلك، فهل عليَّ شيء فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “المتشبع بما لم يعط كلابس ثوب زور” (متفق عليه).
ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المدرسة أو الصلاة إلا بوعد أو وعيد، أو تخويف كاذب، كان ذلك مباحاً” (إحياء علوم الدين ص137، ص139).
وإذا عدنا إلى سؤال الأخت المستفتية، وجدنا أنها ارتكبت خطأين اثنين:
الأول: أنها وعدت صديقتها بالزيارة وأخلفت، مع أن الوفاء بالوعد واجب، وإخلافه من آيات النفاق، كما ذكرنا إلا من عذر.
الثاني: أنها بررت هذا الإخلاف بعذر مختلق، فعالجت الخطأ بخطأ آخر.
وكان الأولى بها أن تقول الحقيقة، وإن ظهر تقصيرها، حتى لا تعود إلى ذلك مرة أخرى، ولا مانع من التلطف والترفق في اختيار الصيغة التي تظهر بها الحقيقة لصديقتها، ومن التلطف المباح هنا أن نستخدم “المعاريض” بدل الكذب الصريح، فقد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب، وقال عمر: “أما في المعاريض ما يكفي الرجل عن الكذب” (رواه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين مرفوعاً وموقوفاً، قال البيهقي: الصحيح موقوف)، فأما إذا لم تكن حاجة أو ضرورة فلا يجوز التعريض ولا التصريح جميعاً، ولكن التعريض أهون.
فإذا لم يحضرها أو لم يمكنها التعريض بمثل ما ذكرنا، فهل يجوز لها التصريح بالكذب، كما فعلت السائلة؟
والجواب هنا يتوقف على معرفة مدى العلاقة بين الصديقتين، وهل يُخشى أن تسوء أو تضعف إذا ذكرت ما وقع بالفعل؟ فإذا خشيت ذلك، وكان قلب الصديقة لا يطيب إلا بمثل ما اعتذرت به إليها، كان ذلك من باب الضرورة التي تقدر بقدرها على ألا تتخذ ذلك عادة، فيسهل الكذب عليها لحاجة ولغير الحاجة.
العدد (1592)، ص98 – 22 المحرم 1425ه – 13/3/2004م