- تخرجت في كلية التجارة، وسعيت في طلب الرزق، فلم أجد إلا عملاً بأحد البنوك، لكنني أعلم أن من أعمال البنوك ما يقوم على الربا، وأن الله لعن كاتب الرباً، فهل أقبل هذا العمل، أم أرفضه، علماً بأنه مصدر رزقي؟
– النظام الاقتصادي في الإسلام يقوم على أساس محاربة الربا، واعتباره من كبائر الذنوب التي تمحق البركة من الفرد والمجتمع، وتوجب البلاء في الدنيا والآخرة، نص على ذلك الكتاب والسُّنة وأجمعت عليه الأمة.
وحسبك أن تقرأ في ذلك قول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ) (البقرة:276-279)، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: “إذا ظهر الزنى والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله” (رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد).
والإسلام في تشريعاته وتوجيهاته يأمر المسلم بمقاومة المعصية، فإن لم يستطع كف يده -على الأقل– عن المشاركة فيها بقول أو فعل، ومن ثم حرم كل مظهر من مظاهر التعاون على الإثم والعدوان، وجعل كل معين على معصية شريكاً في الإثم لفاعلها؛ سواء أكانت إعانة بجهد مادي أم أدبي، عملي أم قولي.
ففي الربا يروي جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه” (رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي وصححه، وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححاه)، ورواه النسائي بلفظ: “آكل الربا ومؤكله وشاهدوه –إذا علموا ذلك- ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة”.
تنزيل الحكم على الواقع
وهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة هي التي تعذب ضمائر المتدينين، الذين يعملون في مصارف أو شركات لا يخلو عملهم فيها من المشاركة في كتابة الربا وفوائد الربا، غير أن وضع الربا لم يعد يتعلق بموظف في بنك أو كاتب في شركة، إنه يدخل في تركيب نظامنا الاقتصادي وجهازنا المالي كله، وأصبح البلاء به عاماً كما تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه من غباره” (رواه أبو داود، وابن ماجه).
ومثل هذا الوضع لا يغير فيه ولا ينقص منه امتناع موظف عن تسلّم عمله في بنك أو شركة، وإنما يغيره اقتناع الشعب –الذي أصبح أمره بيده وحكمه لنفسه– بفساد هذا النظام المنقول عن الرأسمالية المستغلة، ومحاولة تغييره بالتدرج والأناة، حتى لا تحدث هزة اقتصادية تجلب الكوارث على البلاد والعباد، والإسلام لا يأبى التدرج في علاج هذه المشكلة الخطيرة، فقد سار على هذه السُّنة في تحريم الربا ابتداء، كما سار عليها في تحريم الخمر وغيرها، والمهم الاقتناع والإرادة، وإذا صدق العزم وضح السبيل.
وعلى كل مسلم غيور أن يعمل بقلبه ولسانه وطاقته بالوسائل المشروعة لتطوير نظامنا الاقتصادي، حتى يتفق وتعاليم الإسلام، وليس هذا ببعيد.
ولو أننا حظرنا على كل مسلم أن يشتغل في البنوك لكانت النتيجة أن يسيطر غير المسلمين –من يهود وغيرهم– على أعمال البنوك وما شاكلها، وفي هذا على الإسلام وأهله ما فيه، على أن أموال البنوك ليست كلها ربوية، فأكثرها حلال طيب لا حرمة فيه، مثل السمسرة والإيداع وغيرها، وأقل أعمالها هو الحرام، فلا بأس أن يقبله المسلم –وإن لم يرض عنه– حتى يتغير هذا الوضع المالي إلى وضع يرضي دينه وضميره، على أن يكون في أثناء ذلك متقناً عمله، مؤدياً واجبه نحو نفسه وربه وأمته، منتظراً لمثوبة على حسن نيته: “وإنما لكل امرئ ما نوى”.
وقبل أن أختم فتواي هذه لا أنسى ضرورة العيش أو الحاجة التي تنزل -عند الفقهاء– منزلة الضرورة، تلك التي تفرض على صاحب السؤال قبول هذا العمل كوسيلة للتعايش والارتزاق، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (البقرة:173).
العدد (1598)، ص58 – 5 ربيع الأول 1425ه – 24/4/2004م