خَمْسٌ في السياسة إن اختلت أو اضطربت؛ خرجت عن كونها سياسة إلى شيء آخر لا قيمة له ولا قيام للحياة به: الهوية، والمرجعية، والمنهجية، والوحدة، وشكل العلاقة بين الأشخاص، هذه الخمس قِيَمٌ معيارية حاكمة إذا نظرت إليها من حيث ما تحتويه من معانٍ كلية، ومقومات أساسية إذا نظرت إليها من جهة أثرها في المجتمع السياسي، وسمات مميزة إذا عالجتها من زاوية المقارنة مع الغير، المهم أنّ هذه الخمس لا بد من توافرها وتضافرها وانضباطها واتزانها؛ وإلا أُفْرِغت السياسةُ من حقيقتها الجوهرية، التي هي بحسب تعريفها الأشهر: «ما كان من الأقوال والأفعال بحيث يكون حال الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد»؛ فهل يمكن أن يكون الحج بما اشتمل عليه من مناسك منبعاً لهذه الخَمْس؟
الطواف رمز للاجتماع والاتباع
إنّ الطواف الذي يقوم به وفدُ الله وممثلو الأمّة الإسلامية له رمزيّة عظيمة، وله كذلك أثر تربويّ يسري في الأجيال، فهذا الطواف المنضبط بالبيت العتيق محاكاة لكل مجموعة متماسكة في هذا الكون، ومُضِىٌّ على السَّنَنِ العامِّ لهذا الوجود، إنّ هذا الدوران حول الكعبة في الاتجاه ذاته الذي تدور فيه الجسيمات الصغيرة حول نواة الذرة، وتدور فيه الكواكب العملاقة حول الشمس، إن هذا الدوران الذي يقع في اتجاه واحد وحول محور ثابت هو السبب الأصيل في تماسك الكون كله من الذرة إلى المجرة، وإن طواف المسلمين حول الكعبة ليرمز إلى هذا التماسك الضروري الذي لا يتحقق إلا بأمرين: الاجتماع والاتباع؛ الاجتماع الذي يمثله الطواف، والاتباع الذي يمثله وقوع هذا الطواف مشدودًا إلى قطب واحد ومحور واحد، إنه المعنى الذي تكرسه الآية: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)، وإنّ هذين (الاتباع والاجتماع) هما أساس الوحدة والتماسك والقوة، وإنّ السياسة الشرعية التي تتحكم في سفينة الأمّة لا بد أن تراعي هذا البعد الخطير، فتتخذ كافّة التدابير التي تحقق الوحدة حول منهج الله تعالى.
السعي بين الصفا والمروة وإبراز الهوية
وإن السعي بين الصفا والمروة لَمِنْ أجل الأعمال التي تكرس في الأمة الإسلامية معنى الاتباع؛ الاتباع الذي يبرز الهوية الخاصة للأمّة الإسلامية، الاتباع بمعناه الواسع الأصيل بما يشتمل عليه من ملامح الهوية، الاتباع الذي لا يمكن أن ينحصر في طوق الاصطلاح الفقهي الأصولي المتأخر، الاتباع الذي عناه القرآن بلفظه العربي الرحيب العميق: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل: 123).
إن اندفاع بعث الأمة ووفد الله في المسعى خلف طيف أمهم هاجر ليؤكد للدنيا أن هذه الأمة أمة لها طريقها الذي تمضي فيه خلف رموزها، ولها هويتها التي ترسم لها طريقها وتضع لها على جانبيه المعالم البارزة، وليست بحاجة إلى قدوة من هنا أو أسوة من هناك، وليست مفتقرة إلى من يعرفها طريقها أو يفسر لها دينها، إنها أمة غنية مستغنية، لها رموز انغرست في ضمير الوجود ووقفت فيه صامدة تحمل مشاعل المنهج الرباني، فاندفاع الحجيج خلف طيف أمهم هاجر ليس مجرد إحياء للذكرى، وإنّما هو في حقيقته عملية ترسيخ للهوية التي أرساها القرآن بالتأكيد على أنّ هذه الأمّة هويتها الإسلام «الحنيفية» ملة إبراهيم، التي -بعد حديثٍ عن إبراهيم وذريته من المسلمين- سميت بهذا الاسم الدقيق «صبغة» (الهوية الإسلامية): (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) (البقرة: 138).
مثلث المنهجية المميزة للأمّة
وفي مناسك الحج، تترسخ معالم أساسية للمنهجية الإسلامية الرشيدة، المنهجية التي تصطبغ بها السياسة كما يصطبغ بها السلوك الفردي والجماعي، وتلتزم بها الدولة كما يلتزم بها الفرد والجماعة، وتتحدد هذه المعالم للمنهجية الإسلامية وتتبلور عبر ثلاثة من المناسك الكبرى: النسك، والوقوف بعرفة، ورمي الجمرات، فالنسك إحياء لذكرى قصة الذبيح؛ حيث استسلم إبراهيم وإسماعيل لأمر الله تعالى، وحيث أعلن إسماعيل عن المنهج بقوله: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) (الصافات: 102)، وهنا تتعلم الأمة درسًا في المنهجية التي يجب أن تلتزم بها الأمة على كافّة الأصعدة بما في ذلك الصعيد السياسي، وهي الاستسلام لحكم الله مهما جهلت الحكمة منه.
أمّا الوقوف بعرفة فهو تدريب للأمّة على أن تكون وقَّافة عند حدود الله تعالى، إن وقوف الحجيج بعرفات -وهم بعث الأمة الإسلامية وممثلوها في حضرة الملك الجليل- ليس مجرد وقوف للدعاء والذكر في مكان اختاره الله سبحانه لهم، وإن كان هذا مقصودًا، وكانوا مأجورين عليه ولو لم يستوعبوا منه الدرس الكبير، ولكنه وقوف الامتثال، وإن امتثال الأمة الإسلامية لأمر ربها لكي يكتمل يلزمه أن تقف الأمة حيث أوقفها الله عز وجل؛ لئلا تتجاوز في غمرة الانطلاق حدود الله تعالى، وهذا يتجلى في السياسة بصورة كبيرة.
أمّا رمي الجمرات فهو حركة ظاهرة تعلن عن حركة باطنة يؤديها القلب والضمير والوجدان، حركة الرفض للباطل والظلم والطغيان والفساد، وهذا أيضًا يتجلى في السياسة بشكل واسع وعميق.
الإعلان عن المرجعية العليا للدولة
وإنّ أبرز ما يلوح للحجيج في عرفة ومنى طيف إمام المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وهو -من فوق ظهر القصواء- يخطب في الأمة الإسلامية: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»، «فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»، «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله».
إن هذه الكلمات ليست مواعظ متفرقة، كيف وهي نصوص ومواد الكلمة الختامية التي ودع فيها الرسول أمته، إنها اللمسات الأخيرة للدوائر الثلاث: دائرة الأسرة، ودائرة المجتمع، ودائرة الدولة، فالأسرة لا صلاح لها إلا بقيام العلاقة بين قطبيها على الخير، والمجتمع لا صلاح له إلا بأن تُصان حرمة الأموال والدماء والأعراض، والدولة لا صلاح لها إلا بأن تكون مرجعيتها العليا الكتاب والسُّنة.
المساواة هي الأصل
ها هم حجاج بيت الله على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ومراتبهم يدخلون في مظهر واحد على وجه الإلزام، ها هم حكامًا ومحكومين يخرجون جميعًا من أزيائهم إلى زيّ واحد؛ ذلك ليترسخ في ضمير الأمّة أنّ المسلمين سواسية، لا فرق بينهم إلا في الوظائف والتكاليف المسندة إلى كل شخص، فالعلاقة إذن علاقة مبنية على أصل المساواة، ولا خروج عن هذا الأصل إلا بقدر ما تقتضيه الوظائف والتكاليف وما يلزم لها، وما يقتضيه العقد المبرم بينهما.
فبذلك فليفرحوا
فما أروعها من دروس! وما أعظمها من شريعة إلهية! تربي الأمة على كل ما ينفعها في دينها ودنياها؛ لذلك نُكَبّر ونفرح، نُكَبّر: (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) (الحج: 37)، ونفرح؛ (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) (يونس: 58)، “الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد».