أين هذا الإسلام الذي تفتخرون به؟! ومتى طُبقت هذه التعاليم التي تتشدقون بها؟! إنكم تتحدثون عن نظام مثالي رائع في ذاته، ولكنه لم يوجد في واقع الناس، فإذا سألناكم عن التطبيق العملي لم تجدوا إلا فترة قصيرة في حياة الرسول والخليفتين الأولين، وتغنيتم بعدل عمر بن الخطاب، فإذا فتشنا في تاريخ الإسلام بعد ذلك لم نجد إلا ظلمات بعضها فوق بعض، من إقطاع وظلم، واستبداد، وتأخر ورجعية!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
هذا ما يقوله أعداء الفكرة الإسلامية في الشرق والغرب، بل هذا ما يقوله بعض المسلمين الذين لم يتعرفوا على التاريخ الإسلامي إلا من خلال ما كتبه المستشرقون وتلاميذهم.
أولاً: ينبغي أن نفرق بين أمرين مهمين، هما:
1- مثالية النظام ذاته.
2- ومثالية التطبيق.
فهل الإسلام بطبيعته نظام مثالي لا يقبل التطبيق العملي في واقع الناس، لاعتماده على عناصر خيالية أو مستحيلة، أم هو نظام عملي، ولكنه لم يطبق بصورته الكاملة؟
والفرق بين الأمرين كبير، فحين يكون نظاماً مثالياً في ذاته، فلا أمل في تطبيقه أبداً مهما تبدلت الأحوال والظروف، أما إذا كان نظاماً واقعياً، ولكنّ ظروفاً بعينها قد حالت دون تطبيقه، فالأمر مختلف، والأمل في التطبيق قائم متى زالت هذه الظروف، فأي الوضعين ينطبق على الإسلام؟
الأمر لا يحتاج إلى كثير جهد لنؤكد عملية النظام الإسلامي، ومجرد تطبيقه ولو لمرة واحدة في تاريخ البشرية يثبت بالدليل القطعي أنه نظام قابل للتطبيق، وأنه لا يعتمد على عناصر خيالية ولا مستحيلة(1).
أما لماذا لم يتكرر عهد الخلفاء الراشدين مرة أُخرى إلا في فترات خاطفة من التاريخ كعهد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه مثلاً فسؤال وجيه، ورده موجود في ملابسات التاريخ، سواء منها ما كان محلياً في الرقعة الإسلامية أو عاماً في حياة البشرية، ويجب أن نلفت الأنظار إلى أمرين مهمين:
الأول: أن القفزة التي قفزها الإسلام بالبشرية من وهدتها التي كانت فيها، إلى مستواها الرفيع الذي تحقق في عهد الخلفاء الراشدين، لم تكن قفزة عادية، فهي معجزة من معجزات الإسلام حققها في واقع الناس، ولكنها كانت في حاجة إلى إعداد طويل وتربية شخصية للأبطال الذين حققوا المعجزة في أشخاصهم وأعمالهم جميعاً.
وانتشر الإسلام بسرعة خاطفة لا مثيل لها من قبل ولا من بعد في كل حركات التاريخ، وتلك معجزة أُخرى من معجزات الإسلام لا تفسرها كل التفسيرات المادية والاقتصادية التي يفسر بها الماديون تاريخ البشرية.
هذه السرعة في الانتشار جلبت إلى الإسلام أقواماً متعددين ليسوا كلهم قد تشربوا روح الإسلام، ولا فهموا حقيقة نظمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولم يكن في الوسع تربيتهم جميعاً بالصورة التي تربى عليها المسلمون الأوائل في الجزيرة العربية، وكان من جراء دخول هذه الأقوام في الإسلام وحسبانها من تعداد المسلمين، أن اتسعت رقعة الإسلام؛ ولكن مبادئه لم تتغلغل في نفوس المسلمين الجدد فسهل الانحراف والبعد عنها.
والثاني: أن هذه القفزة الإسلامية لم تكن طبيعية بالنسبة لـ«التطور» البشري، فقد رفعت الناس طفرة من الرق إلى صورة من العدل الاجتماعي لا تزال تعتبر خطوة تقدمية بالنسبة لكل النظم التي جربتها البشرية، كما رفعتهم من حضيضهم النفسي الغارق في شهوات الأرض إلى قمة تفخر بها الإنسانية في جميع عصورها، وقد أطاق الناس وقتها هذا الارتفاع الشاهق المفاجئ؛ لأن الدفعة الروحية الممثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت كقوة السحر التي ترفع الإنسان فوق طاقاته العادية وتجعله يصنع ما يشبه المعجزات، فلما انحسرت هذه الدفعة الهائلة ارتد الناس عن آفاقهم العليا، وإن كانوا مع ذلك قد احتفظوا بقيم الإسلام.
وإذا أردنا أن نطبق الإسلام اليوم في واقع الحياة فلن نقفز قفزات معجزة كتلك التي قفزها العرب في صدر الإسلام؛ لأن التجارب والسوابق قربتنا من تلك القمة العالية، فصارت النقلة أقرب، وصار الجهد المطلوب أيسر من ذي قبل.
إن الأمم التي تعيّن حكامها اليوم بالانتخاب العام، وتعزلهم حين تراهم انحرفوا عن سواء السبيل، لا تزيد على أنها تطبق الصورة الإسلامية للحكم في صدر الإسلام من جانبها العملي، وقد كان هذا معجزة في عصر أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، ولكنه اليوم في متناولنا حين نريد، أي حين يصير لدينا الوعي الذي تملكه هذه الأمم، فإذا كنا نملك ذلك بتقليد الغرب، فلماذا نعجز عنه إذا طلبناه باسم الإسلام؟
القضية في جوهرها يجب أن توضع على النحو التالي:
هل تلك النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ممكنة في ذاتها أم غير ممكنة؟ فما دامت ممكنة في أي مكان وفي أي نظام، فكيف لا تكون ممكنة في الإسلام وهو أول نظام طبقها بالفعل على ظهر الأرض؟!
ولا عبرة بالوهم الذي يثيره هؤلاء، من أن النظم الحديثة قائمة على أسس علمية، والإسلام قائم على العواطف والنوايا الطيبة، فالجانب التشريعي في الإسلام ليس عواطف، والخلفاء الراشدون حين كانوا يتشاورون في تطبيقه ويضعون له التفسيرات الفقهية لم يكونوا حالمين ولا معتمدين على حسن نوايا الناس، بيد أن الإسلام يختلف عن غيره في أنه لا يعتمد على القانون وحده، فهو يضع التشريع، ولكنه يهذب النفوس وينظفها حتى تتطوع بما فوق الواجب المفروض، وتنفذه بدافع من الداخل لا خوفاً من سطوة الحاكم فحسب، وهذه أبرع سياسة يمكن أن تطبق في عالم الناس(2).
إن هؤلاء يحسبون أنهم يوقعوننا في حرج شديد عندما يقولون: لا تحاجونا بعمر؛ حيث إنه لن يتكرر في التاريخ!
وهذا انحطاط فكري، فنحن لا نحاجّ الناس بشخص عمر رضي الله عنه -مع عظم شأنه- ولكننا نحاجهم بتطبيقاته العملية، فحين قرر عمر عدم قطع يد السارق إذا كانت هناك شبهة في أنه اضطر للسرقة لحاجته إلى الطعام، فهذا تطبيق لا يحتاج لشخص عمر لتنفيذه، وعمر استمده من قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 3)، ومن أصل ثابت في الشريعة الإسلامية: «ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات»، وحين ننفذه اليوم فلن نجد قوة خفية أو ظاهرة تمسك يدنا وتقول لنا: كيف تنفذونه وعمر غير موجود!
وحين قرر عمر حق الإمام في أخذ فضول أموال الأغنياء وردها على الفقراء، فهذا تطبيق ينفذ اليوم بصفته اجتهاداً فقهياً لا بصفته نزعة شخصية لعمر، وعمر استمده من قوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7)، ولن نحتاج إلى شخص عمر لينفذه! وحين قرر عمر مبدأ محاكمة الولاة وسؤالهم: من أين لك هذا؟ ليتبين إن كان من مالهم أم من مال الناس، فهذا مبدأ قانوني ينفذ في كل وقت، وفي غيبة عن شخص عمر.
وحين قرر عمر أن الطفل اللقيط ينفق عليه من بيت المال لأنه لا ذنب له في جريمة أبوية -وهو تشريع عرفته أوروبا وأمريكا في القرن العشرين فقط- فلن نحتاج في تنفيذه إلى أكثر من إقراره في صلب القانون.
أما المغالطة الكبرى التي ارتكبها هؤلاء، فهي الزعم بأن الإسلام لم يوجد إلا في عهد الخلفاء الراشدين، وهي شبهة يؤمن بها بعض المسلمين!
نعم إن الصورة الكاملة للإسلام لم تنفذ بعد الخلفاء الراشدين إلا في فترة خاطفة في عهد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، هذا حق؛ ولكن هذا لا يعني أن الإسلام قد انتهى بعد ذلك، فقد فسدت الحكومة وحدها فساداً جزئياً أو كاملاً، وبقي المجتمع إسلامياً حقاً، يعيش بروح الإسلام التي لا تقسم المالكين وغير المالكين إلى أسياد وعبيد، بل تجعل منهم إخوة مترابطين مشتركين في الجهد وفي الجزاء.
وبقيت الشريعة الإسلامية هي التي تحكم في كل جزء من أجزاء العالم الإسلامي، ولم تقم محاكم خاصة على هوى الإقطاعيين كما حدث في أوروبا في القرون الوسطى.
وبقي وفاء المسلمين بتعهداتهم مضرب المثل بين أمم الأرض، وبقي حب المسلمين للعلم وإخلاصهم للثقافة، مما جعل العالم الإسلامي في الأندلس وغير الأندلس كعبة المتعلمين في مختلف الفنون.
ليس الإسلام، إذن، نظاماً مثالياً بالمعنى السيئ للمثالية، وإنما هو نظام عملي بحت، طبقته البشرية مرات، وهي اليوم أقدر على تطبيقه مما قبل، فهل يدرك هذا أعداء الإسلام هنا وهناك؟
_____________________________________
(1) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي بن نايف الشحود (1/ 238)، بتصرف.
(2) شبهات حول الإسلام، د. محمد قطب (1/ 205).