تضم العاصمة الصينية بكين 71 مسجداً، بُنيت كلها في فترات زمنية مختلفة، إلا أن مسجد «نيوجيه» أو مسجد «شارع البقر» يعد أقدم وأعرق المساجد في العاصمة الصينية.
يرجع بناء مسجد «نيوجيه» إلى عام 386هـ/ 996م، ويقع في شارع «نيوجيه» المتفرع من شارع «قوانغ آن من» في حي «شيوانوو» بمدينة بكين، وهو مسجد قديم البناء ذو تاريخ طويل.
وقد اكتسب الحي شهرة واسعة بوجود هذا المسجد العريق فيه، وسُمي بشارع «البقر» لوجود جزارات المسلمين فيه منذ وقت طويل، حيث كانوا يذبحون الأبقار في الأعياد والمناسبات الدينية، وفي عام 1988م أدرجه مجلس الدولة في قائمة الآثار التاريخية المحفوظة على مستوى البلاد.
تاريخ المسجد
يعرف حي «نيوجيه» حيث يقع المسجد بحي «قانغشانغ» (أي الرابية) لارتفاع موقعه، وقد ورد في سجل «قانغشانغ»: «أن شيخاً عربياً اسمه قوام الدين أتى بأولاده إلى الصين لنشر الإسلام، ولما منح الإمبراطور الابن الأول ناصر الدين منصبًا رسميًا، ولقباً شرفياً، اعتذر عن عدم قبولهما بإصرار؛ إذ كان قد صمم على التفرغ للشؤون الإسلامية، فطلب من الإمبراطور أن يمنحه هبات ليستطيع بها بناء مسجد في قانغشانغ الذي هو مسجد «نيوجيه» الآن.
صرح متكامل
المسجد عبارة عن مجموعة متكاملة من المباني الرائعة تبدو منسجمة ومحكمة ومتناسقة، تبلغ مساحة المسجد 6 آلاف متر مربع، وتشمل مبانيه الرئيسة الجدار الخارجي، البوابة، قاعات الصلاة، برج استطلاع الهلال، المئذنة، غرف الدعوة الإسلامية والتدريس الديني، الأنصاب الحجرية، المقصورات، غرف الوضوء والاغتسال.
مراقد العلماء العرب
في الركن الجنوبي الشرقي من مسجد «نيوجيه» يقع قبران لاثنين من المسلمين؛ الأول للشيخ أحمد البرتاني القزويني (المتوفى عام 679هـ/ 1280م)، والآخر للشيخ علي بن القاضي عماد الدين البخاري (المتوفى عام 682هـ/ 1283م)، وهما من العلماء العرب الذين جاؤوا إلى الصين لنشر الإسلام وعاشوا وماتوا ودفنوا في هذا المكان.
العهدة الإمبراطورية
من ضمن محفوظات المسجد لوح عليه أمر إمبراطوري مؤرخ بعام 1694م، وترجع قصة هذا اللوح الإمبراطوري إلى زمن الإمبراطور كانغ شي، حيث رأى الضابط المكلف بحماية حي نيوجيه أن المسجد مضاء بالأنوار المتألقة في ليالي رمضان، وأن المسلمين يدخلون المسجد كل مساء بأعداد كبيرة ولا يخرجون إلا عند الفجر.
تقرير مزيف
فرفع تقريراً إلى البلاط الإمبراطوري جاء فيه: إن المسلمين يتجمعون كل ليلة داخل المسجد ويمارسون طقوساً غريبة ثم يتفرقون نهاراً، فيبدو أنهم يبيّتون النية للتمرد؛ وعليه فاقترح اتخاذ الإجراءات العاجلة لقمع حركة المسلمين قبل ظهورها.
لكن الإمبراطور كانغ شي كان عاقلاً، فبعد أن اطلع على التقرير، استدعى وزيره المقرب نيو شي، والمعلم الكبير وانغ شي لمقابلته في القصر الإمبراطوري، وكلاهما يسكن في مكان قريب من منطقة نيوجيه، ومن ثم فإنهما على دراية بأحوال المسلمين هناك.
قال الرجلان، وهما في حضرة الإمبراطور: إنهما لم يشعرا بأي حركة غير عادية من جانب المسلمين في الفترة الأخيرة، وإنما عرفا أن هذا الشهر هو رمضان في التقويم الإسلامي، ومن ثم فإن المسلمين يقومون بنشاطات احتفالية في المسجد.
تقصي الحقيقة
ومن أجل استيضاح الحقيقة، قرر الإمبراطور أن يذهب بنفسه إلى منطقة المسلمين، (وقيل: إنه أرسل مستشاريه) وبرفقته الوزير والمعلم، لكي يروا عن كثب ماذا يفعل المسلمون في المسجد، فاستبدلوا ملابس المسلمين بملابسهم الرسمية، ولبسوا عمائم بيضاء وتوجهوا إلى مسجد «نيوجيه».
دخل الإمبراطور ورفيقاه قاعة الصلاة في المسجد؛ فوجدوها مكتظة بالناس، جلسوا بهدوء حول شيخ كبير السن، له لحية بيضاء طويلة ووجه بشوش، وعلى رأسه عمامة بيضاء، يلقي خطبة على السامعين عن فضائل الصيام وضرورة التأسي بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الرحمة والعفو وبر الوالدين وحسن معاملة الجيران ومساعدة المحتاجين وغيرها من القيم الإسلامية.
فأعجب الإمبراطور بتعاليم الدين الإسلامي، ورأى الخشوع والورع على وجوه المسلمين، فأشار إلى مرافقيه بالانصراف.
عندما خرج الثلاثة من المسجد جالوا في الشوارع، وكان الليل قد أسدل أستاره من كل اتجاه، وشعروا بالجوع فتوجهوا نحو مطعم صغير بجانب الطريق، فخرج صاحب المطعم مسرعاً، ودعاهم باحترام وحفاوة إلى الدخول، وقد عرفوا، من عمامته البيضاء، أنه مسلم، قالوا له: إنهم قد نسوا أن يحملوا نقوداً معهم فهل يمكن أن يطعمهم على أن يدفعوا له في اليوم التالي؟ قال لهم صاحب المطعم: لا تكليف بيننا، كلوا ما شئتم فأنتم ضيوفنا! فسروا وأكلوا حتى شبعوا، وفي طريق العودة أجمع الإمبراطور ورفيقاه على أن تقرير ضابط أمن العاصمة كان كاذباً.
في اليوم التالي أشرف الإمبراطور كانغ شي شخصياً على جلسة صباحية للبلاط داخل قاعة الاجتماعات في القصر الإمبراطوري، واستدعى ذلك الضابط الكبير، وقام، في حضور الوزير نيو شي، والمعلم وانغ شي، باستجوابه حول صحة تقريره.
أمام الحقائق الدامغة اضطر الضابط الكبير الغافل أن يعترف بخطئه، فقرر الإمبراطور عقابه بأن نحّاه عن منصبه وحوّله إلى المحاكمة، وهكذا استطاع الإمبراطور تفادي ارتكاب خطأ بناء على تقرير كاذب.
كما أن الإمبراطور لم ينس أن يكلف خادماً من البلاط بالذهاب إلى ذلك المطعم الصغير في منطقة نيوجيه لتسديد دينه بمبلغ يعادل أضعاف قيمته لمكافأة صاحب المطعم الطيب.
وللتعبير عن عنايته بالمسلمين وعزمه على التعامل بنزاهة وعدالة في الفصل في النزاعات بين أبناء الشعب من مختلف القوميات، أصدر الإمبراطور كانغ شي مرسوماً رسمياً بشأن مسجد نيوجيه، هذا نصه:
«أنا الحاكم المطلق لإمبراطورية تشينغ العظيمة، أعلن لكم أنه بعد استعراض الأحداث المهمة في تاريخ قومية هان وقومية هوي المسلمة، وجدت أن أبناء هان وأبناء المسلمين مخلصون للبلاد، وملتزمون بعقائدهم السياسية والدينية الصحيحة، ولأسباب عديدة نشأت في مجتمعنا عقائد شريرة تشوش عقول الناس، وتخلق اضطرابات اجتماعية، فإنني لن أسمح بارتكاب هذه الجرائم فيما بعد، ومن اليوم، إذا قام أي ضابط أو موظف حكومي بتلفيق التهم ضد المسلمين انطلاقاً من ضغائن شخصية، يجب على الحاكم المحلي أن يعاقبه مباشرة، ومن جانب المسلمين عليهم أن يلتزموا بالمذاهب الإسلامية كما يشاؤون، وألا يخالفوا قوانين الدولة في جميع تصرفاتهم، هذه هي نصيحتي لهم».
تاريخ الإصدار: الشهر السادس من السنة الثلاثة والثلاثين لعهد الإمبراطور كانغ شي.
هدايا الإمبراطور
وبعد ذلك، أهدى الإمبراطور كانغ شي إلى مسجد «نيوجيه» عدداً من الهدايا النفيسة، منها: نصف طاقم من عربة إمبراطورية؛ وتمويل إنشاء رواق مدخل فاخر للقاعة الرئيسة للمسجد؛ وقدر نحاسي ضخم يستخدم لإعداد حساء الأرز للمسلمين المجتمعين في المسجد في الأعياد الدينية؛ ولوحة كتب عليها الإمبراطور بخط يده: «المسجد المشيد بأمر الإمبراطور»؛ ولوحة كتب عليها الإمبراطور بخط يده «الصراط المستقيم إلى السماء».
واليوم لا يزال مسجد «نيوجيه» في بكين يحتفظ ببعض العهدة الإمبراطورية ورواق المدخل والقدر، أما الهدايا الأخرى فقد ضاعت وطواها النسيان.