شكلت القدس نقطة تحرك حضاريّ وثقافيّ أساسيّة في المشرق الإسلامي، وأخذت أهمية المدينة بالتزايد من خلال المكانة العظيمة لها في الإسلام، ومن ثم مركزيتها في الصراع بين الشرق والغرب؛ إذ تعرضت المدينة لاحتلالين، كانت فيهما الأمة في حالة بالغة التدهور والسوء، ومع مرور 924 عاماً على الاحتلال الصليبي للقدس 15 يوليو 1099م، نستعيد هذه الذكرى لبناء مقاربة عن واقع القدس في هذه الأعوام الأخيرة، وكيف استطاعت المدينة، ومن خلفها الأمة، أن تغالب احتلالين؛ كسرت قيد الأول، وشكَّل -أي الاحتلال الصليبي- نموذجاً يمكن استلهام التجارب منه، سواء عن واقع الأمة قبيل الهزيمة والاحتلال، أو عن سبل النهضة والتقدم، وإحداث التغييرات اللازمة على الصُّعد العسكرية والإدارية والمعرفية.
868 عاماً بين احتلالين
فصل بين الاحتلال الصليبي للقدس عام 1099م، واحتلال الشطر الشرقي من المدينة في عام 1967م نحو 868 عامًا، فالأول وقع في 23 شعبان 492هـ/ 15 يوليو 1099م، والثاني احتلال شطرها الشرقي في 6 يونيو 1967م، بعد احتلال شطرها الغربي في عام 1948م، وفي الحالين أحدث خبر احتلال المدينة صدمة كبيرة، بلغت أصداؤها أطراف العالم الإسلامي، ولكن الصدمة من جهة، وحالة الضعف المستشرية في الأمة من جهة أخرى، حالتا دون أن يكون رد الفعل على قدر خطورة الحدث، وأخذت التغييرات الداخلية زمنًا حتى آتت أكلها.
نهضة القدس من نهضة الأمة
رسخت المحطات التاريخيّة المتعاقبة بأنّ القدس واحدةٌ من معايير صحة الأمة وحيويتها، ومقياس جليّ لمدى قوتها من جهة أو ترهلها من جهة أخرى، إذ تؤشر المحطات الرئيسة من تاريخ القدس من الفتح العمري، والتحرير الصلاحي، ومن ثم احتلالها على يد الاستعمار البريطاني، ومن ثمّ إقامة دولة الاحتلال فيها، إلى وجود تغييرات واضحة جرت في الأمة، ومسّت مفاصلها جميعًا حتى أصبحت قادرة على التحرك وإحداث التغيير اللازم، لكي تستطيع الأمة أن تعيد ضمّ القدس إليها مرة أخرى.
ففي المحطة الأولى، كان الفتح العمريّ للقدس تتويجًا لمرحلة النبوة وما تبعها من حكم الخليفتين الراشدين أبو بكرٍ الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو مسارٌ طويل من الاستعدادات الأولى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم لفتح بلاد الشام، وصولًا إلى صعود الكيان الإسلامي على الخارطة الدولية، وإنهاء واحدة من أعظم الإمبراطوريات في ذلك الزمن، ولم تفتح القدس أبوابها إلا للخليفة بنفسه.
وفي المحطة الثانية، شكل تحرير القدس على يد صلاح الدين الأيوبي، باكورة تغيير عميق، وانتقال الأمة من حال الضعف والشرذمة والتفرقة، والخلافات على الصعد كافة؛ مذهبيًا وعقديًا وسياسيًا، إلى وحدة وتجانس شملت بلاد الشام ومصر، تحت قيادة نور الدين محمود زنكي، ومن بعده صلاح الدين الأيوبي، في تجلٍّ حضاري بأن الدافعية خلف تحرير القدس عامل أساسي في نهضة الأمة، وجزء من حالة التغيير التي يجب أن تشمل كل أجزاء الأمة ومكوناتها.
عن واقع الأمة قبل احتلالين
وفي محاولة لمعاينة واقع الأمة قبيل الاحتلالين، نجد العديد من القواسم المشتركة، ولا نقول: إن التاريخ يعيد نفسه، فسيرورة حركة التاريخ لا تتكرر، ولكنها سنن ربانيّة تسري في الأمم والشعوب، وتكون نتائجها متشابهة، ونستطيع من خلالها تشخيص بعض أمراض الأمة، ويمكن أن نذكر منها:
– الضعف السياسي العام؛ فقُبيل وقوع الاحتلالين كان العالم العربي والإسلامي يعيش في حالة من غياب الدولة المركزية القادرة على مواجهة الخطر المحدق أو تجنبه.
– الانقسام والتشرذم؛ عبر تفتيت الدول المحيطة بفلسطين والقدس لدول محدودة التأثير والقوة، فإبان الاجتياح الصليبي ظهرت في بلاد الشام العديد من الدول الصغيرة المتناحرة، وتنتظر كل واحدة منها لتنقض على الأخرى، وبُعيد سقوط الدولة العثمانية حرص «الاستخراب» (الاستعمار) على تفتيت بلاد الشام وإدخاله في صراعات طائفية وقومية ما عهدها سابقًا.
– غياب دور وأثر القيادات الواعية التي تقود جماهير الأمة للدفاع عن القدس، والوقوف في وجه تلك المؤامرات، إضافة إلى غياب القاعدة الصلبة التي تؤازر هذه القيادات في الدفاع عن مقدسات الأمة.
– التناحر الفكري والمذهبي؛ فقد نشطت في التاريخ الإسلامي مذاهب عديدة، وتيارات فكرية مختلفة، أسهمت في إثراء الحياة الفكرية ومواجهة التيارات الباطنية، واستطاعت بلورة مؤسسات اجتماعية وثقافية وإدارية، ولكن دورها انتكسّ ودخلت في صراع مذهبيّ عقيم، أنهت الإنجازات السابقة، وصبغ المجتمعات الإسلامية بالسلبية والجمود، وحوّل الأمة إلى فرق متناحرة، الأمر الذي انعكس سلبًا على اهتمام جموع الأمة بقضاياها الأساسية، وهو ما يتكرر حاليًا بكل أسف من دون الخوض في الكثير من التفاصيل.
– إشغال الأمة بالرغيف عن التطلعات الكبرى؛ ففي الاحتلالين كانت أوضاع الناس الاقتصادية بالغة السوء، فانشغلوا عن أهدافهم الكبرى بلقمة الخبز، وأدت السياسات الاقتصادية والتركيز على الضرائب فقط إلى إثقال كاهل السكان، ولم يلتفتوا إلا للقضايا التي تتعلق بحياتهم اليومية.
هذه الظواهر وغيرها الكثير هي التي دفعت لتلك الحالة من التغيير لإيجاد بيئة تستطيع كسر الحالة الراهنة، وإبراز جيل جديد من القادة والمصلحين والعلماء، استطاعت دفع عامة الناس إلى العمل، من أجل تحرير أنفسهم مما ران عليهم من التشرذم والضعف والخلافات المذهبية التي لا طائل منها، ومن ثم كانت الخطوة التالية باتجاه تحرير القدس والمسجد الأقصى المبارك، لتتحول إلى حتمية ربانيّة وتاريخيّة، وهي عملية ليست سهلة البتة، فقد أخذت سابقًا قريبًا من قرن حتى استطاعت الأمة استعادة عافيتها مجددًا.
وكما شكلت القدس نموذجًا للانحدار الذي عانت منه الأمة عندما استطاع الصليبيون الفرنجة احتلالها، شكل تحريرها نموذجًا لقدرة مجموع الأمة على حشد مختلف الطاقات البشرية والعسكرية والمادية والمعنوية، لتحقيق النصر على محتليها، وهو نموذج واقعي، يقدم للأمة اليوم دروسًا عن فرض الواقع في نبذ الخلافات وحشد الطاقات لتحرير المدينة من محتليها من الصهاينة، وهو نصر يمكن أن يتحقق بتضافر جهود العرب والمسلمين خارج فلسطين والقدس، وبصمود الفلسطينيين الأسطوري داخلها.