هناك، في قاعِ غارٍ يظلِّلُه السكون، في هدأة الليل الساجي، حيث يبسط الظلام رداءه فوق الآكام والوديان، وحيث لا يهتز الأثير إلا بتلك التسابيح التي يزجيها محمد بن عبدالله في ذلك الفضاء الصافي، هناك شقّ الشعاع العلويُّ الكونَ كلَّه؛ ليصل إلى هذه النقطة المركزيّة، ولينطلق منها إلى العمق البشريّ، فيضع بحسم وعزم خطاً بارزاً يفصل بين ماضي البشرية ومستقبلها، ويطوي بذلك صفحة من حياة الإنسانية، ويفتتح صفحة جديدة جدّة كاملة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق).
هكذا كانت «اقرأ» أولَ كلمة من الوحي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنّه ابتداءٌ عبقريّ، استهلال فذّ، إشراق فاجَأَ الليل الساجي، إنّها كلمة لا يشبهها في وقعها وأثرها إلا بزوغ الشمس، وبمحاذاتها كلمات ذات دلالات غاية في السطوع والإشراق: «العلم» «القلم» «الإنسان»! عندما تأتي هذه الكلمات دفعة واحدة في أول جملة من الوحي، ويتكرر بعضها رغم الإيجاز الطاغي على الأسلوب؛ فهذا يعني أنّ الإنسانية وَثَبَتْ في تلك الساعة وثبة عالية مع بزوغ شمس الإسلام.
هي -إِذَنْ- طفرة في الإنسانية، وثبة عالية ممتدة، طوت في لحظة كل مراحل البداوة والأمية والسذاجة؛ وطوت معها كل ما أرجفت به المذاهب وما أذاعته المدارس من جعجعات لا قيمة لها رغم دويها المزعج؛ لتقوم حياة الإنسان على نور العلم، أجل؛ العلم والفهم والفكر الموصول بالله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، لتكون للإنسان حضارة وعمارة قائمة على منهج الله تعالى، ومحققة لغاية الاستخلاف، ومن تلك اللحظة الباهرة والقرآن يؤسس الإيمان ويبني الدين ويربي الأمّة على أساس متين من العلم المنهجيّ والتعليم الممنهج، فما عاد من يومها للجهل مكان، ولا للعشوائية والارتجال نصيب، لقد افتتح القرآن عهداً جديداً تقوم فيه حياة البشرية على قاعدة متينة من العلم الصحيح والتعليم النافع.
وإنّ دعوةَ القرآنِ المتكررةَ إلى التفكر والتدبر، والتذكر والتبصر، والتفهم والتعقل، وإنكارَه المتكررَ على الذين لا يتفكرون ولا يعقلون ولا يتذكرون ولا يتدبرون، ومطالبَتَهُ للكفار -على وجه التحدي- للإتيان بسلطان أو دليل، وحثّه المتواصل وحضّه المتتابع على السير في الأرض لاستكناه النواميس؛ إنّ هذا كله ليجسد حالةَ بعثٍ فكري علميّ تعليمي منهجيّ، وحالةَ تحول وخروجٍ عمّا تقرر سابقاً من مناهج وطرائق في التفكير، وثورة «أبيستمولوجية» تتسم بالعمق والشمول وجذرية التغيير.
كل هذا يؤسس لقيام حياة الناس على العلم والتعليم، ويضع للعملية العلمية والتعليمية منهجيّة محكمة رشيدة، وإذا كان المسلمون وهم في مكة قلة مستضعفة لا تستطيع أن تحقق هذه المنهجية إلا في أطر ضيقة وبطرق فرديّة في الغالب؛ فإنّ الهجرة إلى يثرب قد مكنت الجماعة المسلمة من اعتماد المؤسسية في التعليم، وفي وضع المنهجيات العلمية المنطلقة من كتاب الله تعالى، التي ظلت بعد ذلك على مدى قرون متتابعة تمثل قوة دفع للأمة الإسلامية في طريق العلم والتعليم.
ولقد كان من السور التي نزلت قبيل الهجرة، التي توسعت في التمهيد والتوطيد للمجتمع الإسلامي الجديد؛ سورتا «الإسراء»، و«الكهف»، وقد جاء في الدستور المبدئيّ الذي أعلنته سورة «الإسراء» هذه المادة: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء: 36)، وهي مادة كليّة كبيرة في ميدان التأسيس للمنهجية العلمية التعليمية، تؤسس لمبدأ التثبت الذي بدونه لا يقوم للعلم أو التعليم قائمة، ومثلها قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات: 6)، وقوله عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) (النساء: 94)، وما أكثر الآيات التي عابت على المنحرفين اتباعهم للظنّ.
وفي سورة «الكهف» جاءت قصة موسى مع الخضر؛ لنتعلم منها مبدأ التثبت ومبدأ التخصصية وآداب التلمذة، والرحلة في طلب العلم، فتأمل الحرص على الطلب، والدأب وعلو الهمة، مع حسن التأدب، والتماس العلم اللدنيّ ممن تخصص فيه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً {60} فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً {61} فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً {62} قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً {63} قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً {64} فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً {65} قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (الكهف).
ثم جاءت السُّنة المشرفة لتُفَصِّل ما أُجمل، فهذه أحاديث تكاد تنص نصّاً على أمور من صلب المنهجية في العلم والتعليم، كالتحمُّل والتثبت والتخصص، فعن أبي بكرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في آخر خطبة الوداع: «اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب..»، وفي رواية: «.. فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه»، وعن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، مرفوعًا: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مرفوعًا: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرءًا سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مرفوعًا: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»، والمعنى الذي يزداد وضوحًا كلما قلبت في الروايات ووضعت العبارات متجاورة: «رب مبلغ أوعى من سامع»، «فإنّ الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه»، «رب حامل فقه ليس بفقيه»، «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
المعنى هو أنّ هناك من الناس من يحسن السماع والتحمّل والنقل؛ لقوة ملَكَتَي الحافظة والذاكرة، وهناك من الناس من لا يتمتع بهاتين الملكتين ولكنّه يستطيع أن يغوص في أعماق النصّ ويستخرج كنوزه، فالأول راوية والثاني فقيه، الأول أحفظ والثاني أفقه، وعليه فإنّه لا يصح للأول أن يتدخل في عمل الثاني؛ فيحاول أن يتأول النص ثم يرويه بالمعنى، فيغتال عمل الفقيه وهو ليس بفقيه، فهذا أظهر في الدلالة على أهمية احترام التخصصات.
وإنّ من أقوى الأدلة على وجوب التعلم والتعليم هاتين الآيتين: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 9)، (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر: 28)، لأنّه إذا كانت الآيتان قد حصرتا التذكر وخشية الله في العلماء أولي الألباب؛ فلا ريب أنّ التعلم والتعليم فريضة؛ لكونهما الطريق الموصل إلى التذكر والاعتبار والخشية، ومن الملاحظ أنّ الآية الأولى ربطت ذلك بالشعائر التعبدية، بينما ربطتها الثانية بملاحظة الآيات الكونية، وأمثال ذلك في القرآن الكريم كثير، وهذا يدل على أنّ العلم والتعليم لابد أن يشمل الشرعيات والكونيات.