مضى على احتلال بريطانيا للقدس وفلسطين نحو 105 سنوات، وعلى تأسيس كيان الاحتلال السرطاني نحو 75 عاماً، وطيلة هذه السنوات تشكل فلسطين مسرحاً للصراع مع القوى الاستعمارية الغربية، وظهيرها في مشرقنا الإسلامي الاحتلال الصهيوني، وهو احتلال غاشم وحشي، يحاول ترسيخ وجوده من خلال اختلاق المزاعم والأكاذيب، مدعياً أحقيته الدينية والتاريخية في أرض فلسطين المباركة، ومن خلال قتله الآمنين، وسلبه أرضهم.
محطات دامية
ولم تمر هذه السنوات من دون محاولات لمواجهة هذا الاحتلال، فقد مرت القضية الفلسطينية بمحطات من المد والجزر، فكانت النكبة عام 1948م، ومن ثم النكسة عام 1967م، وما جرى فيهما من تغول الاحتلال وتشريد لأعداد مهولة من الشعب الفلسطيني، وتوزعهم في بلدان الشتات، فكانت محطات دامية في الوجدان الفلسطيني، بل ووجدان كل عربي ومسلم، فقد تمدد الاحتلال ليحقق حلمه بالدولة الممتدة من البحر إلى النهر، واحتلت القدس، ودخلت قواته إلى المسجد الأقصى المبارك، وارتُكبت في تلك السنوات مجازر فظيعة.
وعلى الرغم من بوادر المواجهة وقدرة العرب على قلب المعادلة في عام 1973م، فإن عدداً من هذه الدول ركنت إلى مسار الركون والاستكانة، واتخذت السلام مع المحتل حلاً للقضية، فخلعوا بندقية المواجهة، ووقعوا على اتفاقيات السلام؛ فكرت السبحة وسقطت في هذا المستنقع دولة بعد أخرى، حتى أصيب جزء من الفلسطينيين بهذه اللوثة، فانقسم الفلسطينيون، بين مؤيد لمسار السلام مع القتلة الصهاينة، وفئة أخرى ترى أن الاحتلال لا يفهم إلا لغة القوة، وأنها وحدها تستطيع أن تلجمه عن عدوانه بحق المقدسات، وعملوا بكل صمت وتؤدة على الإعداد الفعلي للمواجهات القادمة.
وقد مضى على توقيع اتفاقية أوسلو زهاء 30 عاماً، ومنحنى مواجهة تغول الاحتلال في تصاعد مستمر، وعلى الرغم من تقهقر جزء من الحالة العربية نحو التطبيع، فإن ثبات الفلسطينيين في أرضهم، وتمسكهم بحقوقهم، وصمود عدد من الدول العربية بالمواقف الأصيلة المتمسكة بحقوق هذا الشعب الأبي، كانت كفيلة في عدم إنهاء القضية الفلسطينية، واستطاعت المقاومة الانبعاث من تحت ركام مشاريع التسوية والإنهاء كل حين، وفي السنوات الماضية انتقلت فلسطين من آلام النكبة إلى آمال الطوفان.
تطور المقاومة
وقد تطورت أدوات المقاومة بشكل كبير في السنوات الثلاثين الماضية، وتحول الاحتلال من القوة التي لا تُقهر، وجيشه الذي لا يهزم، إلى أمثولة للعالم وأضحوكة للفلسطينيين، فكانت المعارك مع قطاع غزة من جهة، والهبات الفلسطينية من جهة أخرى، نماذج لجمت الاحتلال، وعرقلت مخططاته لتهويد فلسطين و«أسرلة» القدس، وفي قلب كل هذه الهبات كان المسجد الأقصى، منبع الطوفان ومفجر البركان.
وراكمت المقاومة قوتها وأدواتها على الرغم من الحصار وقلة الأدوات المتاحة، فمن معركة «الفرقان»، و«حجارة السجيل»، مروراً بـ«العصف المأكول»، و«سيف القدس»، وانتهاء بـ«طوفان الأقصى»، كانت نماذج لقدرة المقاومة على الإبداع والبطولة، وأن السواعد التي تحمل هذه القضية لن تستكين أو تهين، وتحول الصاروخ البسيط الذي يصل بصعوبة إلى غلاف غزة، إلى أدوات إستراتيجية تربك منظومة القبة الدفاعية، وتحولها إلى خردة وعبء مادي؛ ما يؤكد من جديد أن تفوق الاحتلال ليس إلا من خلال الإجرام والبغي، ووحشيته في استهداف الآمنين والعزل، وعلى الرغم من جبورته فهو صرح من خيال، وهو أوهن من بيت العنكبوت، في مواجهة أبطال ميامين بررة، وهي الصورة التي نشاهدها بأعيننا كل لحظة في هذه الملحمة البطولية.
ويظل السؤال الملحّ: ماذا بعد؟ وكيف ستتطور الأحداث لاحقاً؟ ربما لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بدقة في الوقت الحالي، فنُذُر استمرار الحرب كثيرة متتالية، والاحتلال سيسعى جاهداً للقضاء على المقاومة وحاضنتها الكبرى، ويستعد للمرحلة التالية بكل ما في جعبته من أدوات قتل وحشية، وسط صمت عربي مريب، وسكوت دولي معهود، ولكن الحرب الحالية ستغير وجه المنطقة، وقد أنهت بلا رجعة صورة الاحتلال القوي الحصين المنيع، واستطاع بضع مئات من المقاومين أن يلقنوه درساً لن ينساه أبداً.
وإننا هاهنا أمام وعدين؛ وعد الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية بدعم الاحتلال وتثبيت أركانه والحفاظ على مستوطنيه، ووعد العلي العزيز القائل في كتابه الكريم: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ) (الحج: 40)، وقوله تعالى: (فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) (الإسراء: 7).
وإنا على يقين بأن المآل للوعد الحق، ففي أقل من ثمانين عاماً تحولت الأعوام العجاف من النكبة والخسارات المتتالية، إلى اجتياح الطوفان الهادر، وكما جسد صباح السابع من أكتوبر الآية الكريمة: (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) (المائدة: 23)، فإنّ الأحرار في فلسطين ومن خلفهم الأحرار في كل قطر وبلد إسلامي، سيتابعون معركتهم في وجه المحتل، وإنه لجهاد نصر أو استشهاد، وإننا على يقين بأنه «لا غالب إلا الله».