يعيش المجتمع الإسلامي بأسره اليوم مرحلة إعادة تقييم شاملة يجدر اغتنامها وفهم دروسها وأخذ العبر اللازمة منها لتلافي تكرار أخطاء الماضي، وتوظيف تلك المراجعة الشاملة في إطار من نقد الذات والمصارحة مع النفس، فاشتداد العدوان «الإسرائيلي» ضد أهالي غزة واحتدام المواجهة الشاملة بين «إسرائيل» والمسلمين لعقود طويلة دون حلول حقيقية يدفع باتجاه إعادة فهم لذلك الصراع وتحليل لأسباب استمراريته دون حل حقيقي طوال تلك السنوات الماضية.
ويُعيدنا المشهد الحالي لإبادة الكيان الصهيوني لأهالي غزة عقب عملية «طوفان الأقصى» إلى واحد من أهم المؤلفات التي أُنتجت عن النقد الذاتي وعن الصراع العربي «الإسرائيلي» في الوقت نفسه، ألا وهو كتاب د. صادق جلال العظم «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، وفيه يشير إلى أن أسباب الهزيمة العربية عشية 5 يونيو 1967م لم تكن وليدة لمؤامرة خارجية أو ظروف خارجة عن إرادة العرب، بل هي نتاج لمجموعة متشابكة من العوامل والأخطاء التي أدت لهزيمة نكراء بما كسبت أيدينا، ومن ثم سعى العظم من خلال مؤلفه لتتبع تلك الأخطاء وتسليط الضوء عليها بغية تصحيحها ومن ثم تجاوز آثار الهزيمة النكراء التي مُني بها العرب على يد «إسرائيل».
ويمكن القول: إن النقد الذاتي النابع من عقلية نقدية مُنفتحة تتقبل الخسارة وتسعى لتعويضها من أندر الإستراتيجيات الفكرية في عالمنا العربي سواء على الصعيد الفردي أو الجمعي، فالأصل هو إنكار الخطأ وقوعاً وارتكاباً ومن ثم النكوص عن الاعتراف به وإصلاحه، ومن ثم تميل المشكلات والكوارث دائماً إلى الاستفحال بدلاً من الحل، وتغيب المحاسبة سواء محاسبة النفس أو محاسبة المسؤولين، ويندر الإصلاح الحقيقي، وتطول أمد الهزائم والانكسارات وتُصبح جزءاً لا يتجزأ من الواقع العربي حتى تؤدي في النهاية إلى انفجار يدمر كل شيء؛ وهو ما شهدناه حين ضج أهل فلسطين بمساعي السلام الفاشلة التي ظلت لسنوات تعدهم وتمنيهم بحل لقضيتهم حتى أصبحت قضية منسية فلم تلبث أن تفجرت المقاومة رافضة للنسيان، فكان الرد حرب إبادة شاملة ضد المدنيين العزل يقف العالم متفرجاً إزاءها.
أهمية النقد الذاتي
ويُشير النقد الذاتي إلى تلك العملية المُستمرة الواعية من جانب الفرد أو المُجتمع لإعادة تقييم الأفكار والسلوكيات والسياسات بغية التخلص من السلبيات والتحسين الدائم لأداء الفرد أو المجتمع، ومن ثم تطوير قدراته وتعزيز نجاحاته وإنجازاته، وهي العملية التي تميل مجتمعاتنا العربية إلى الشعور بالحرج منها، واعتبارها بمثابة تجريح وهجوم وليس رغبة صادقة في دفع المجتمعات إلى الأمام عبر مصارحة النفس بالأخطاء والمشكلات.
ونجد في النكسة والنكبة والمصطلحات التي قرر العرب تسمية هزائمهم بها خير دليل على تراجع أهمية النقد الذاتي لدينا، إذ يرفض العرب ابتداء الاعتراف بالهزيمة ومن ثم يحول ذلك ضمن محاسبة النفس، والوقوف على الأسباب الحقيقية للهزيمة والتوصل إلى طرق ناجعة أولاً لإصلاح آثارها، وثانياً لتجاوزها وتجنب تكررها مرة أخرى، وهو ما يجعل التاريخ العربي تاريخاً من الأزمات الدائرية التي لا تفتأ تُكرر نفسها بين الحين والآخر، طالما لم تجد من يقف لنقدها وتصحيح مسارها.
النقد الذاتي وجلد الذات
وبمقابل النقد الذاتي الذي يتطلب ابتداءً انفتاحاً على النفس وتصالحاً معها، يشيع في عالمنا العربي جلد الذات بديلاً عن النقد الذاتي، إذ بينما يسعى نقد الذات إلى مصارحة النفس بالأخطاء لتحسين السلوك وتطوير الأداء وتحقيق الأفضل، يغلب على جلد الذات تبني الفرد والمجتمع لدور الضحية التي لا تملك من أمرها شيئاً ويدفع الإنسان إلى مراوحة مكانه، فيظل ناقماً على الأخطاء والمشكلات وعاجزاً عن مواجهة نفسه ومحجماً عن تقديم حلول عملية وواقعية تتجاوز تلك الأخطاء.
وبينما تنطلق عقلية النقد الذاتي من اعتقاد مفاده «نحن قادرون على تصحيح أخطائنا»، يحل بديلاً عن ذلك الاعتقاد في عقلية جدل الذات اعتقاد مغاير مفاده «نحن عاجزون عن فعل أي شيء صحيح على الإطلاق»، فجلد الذات يتكئ على عقلية تحتقر نفسها وترى في نفسها غياب أي قدرة على النجاح والإنجاز، وهو الأمر الذي يستشري بقوة في مجتمعاتنا، ويثبط ذوي الهمم عن تحقيق إنجازات، وهو ما نجده عملياً في كثير من الأصوات المتعالية ضد المقاومة بأن الإقدام على الاستمرار في المواجهة انتحار وفشل وأمر غير جدير بأن يتم تبنيه ولا يأتي إلا بنتائج سلبية، بينما تقوم المقاومة على فكرة استغلال أبسط الإمكانات والقدرات في مواجهة أعتى الأعداء بغية تحقيق مكاسب مطردة، وتذكير العدو بشكل دائم أنه لن يهنأ في اغتصاب الأرض، ولن يتحقق له مراده في إشعار المحتلين باليأس والتخلي عن القضية.
النقد الذاتي أداة التقدم
يتأسس النقد الذاتي على عقلية منفتحة نقدية تبتغي تحقيق الأفضل والتطور نحو آفاق أكثر رحابة وإبداع، ومن ثم فالعقلية النقدية تتطلب تفعيل التفكر والنظر والتدبر المأمور بهما في الخطاب القرآني في مواضع عديدة: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت: 20)، وذلك النظر والتدبر يستهدف الفهم والإدراك المتعمق لسُنن الكون، ومن ثم القدرة على إحسان التعامل بتلك السُّنن لتحقيق النهوض والنجاح، ومن ثم فإن النقد الذاتي يتطلب إعمال العقل ابتداءً فيما يرد عليه من صور وأفكار ومعلومات وسلوكيات بغية تقييمها وانتخاب الأفضل، ثم يفترض النقد الذاتي تالياً لذلك استمرار مراجعة ذلك العقل في اختياراته وقراراته دورياً لضمان ديمومة الاختيار الصحيح والفعل السليم.
واليوم وفي ظل تجدد الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي» وانسداد أفق السلام بعد عقود من الانتظار، وسلوك العرب مسالك عدة بغية حل تلك القضية طبقاً لاجتهاداتهم الخاصة، فإن تجدد الاشتباك واستمرار العدوان الذي وصل حد الإبادة؛ فإن نقداً ذاتياً يجدر أن يتم إطلاقه في سائر أنحاء العالم العربي والإسلامي، ابتغاء مراجعة النفس وإعادة تقييم للسياسات العربية والإسلامية التي آلت في النهاية مآلاً عاجزاً عن إيجاد حل ناجع وحاسم لقضية عادلة ومطالب أساسية، ولن يتأتى الوصول إلى ذلك الحل دون مصارحة شاملة لأخطاء ارتكبت وسياسات انتهجت دون جدوى وأخطاء لا تزال قيد التشكل يجب سرعة التخلي عنها.