يشبه الأديب مصطفى صادق الرافعي المحنة بالبيضة: «تُحسب سجناً لما فيها وهي تحوطه وتربيه وتعينه على تمامه، وليس عليه إلا الصبر إلى مدة، والرضا إلى غاية، ثم تنقف البيضة فيخرج خلقاً آخر، وما المؤمن في دنياه إلا كالفرخ في بيضته، عمله أن يتكون فيها، وتمامه أن ينبثق شخصه الكامل فيخرج إلى عالمه الكامل» (وحي القلم، 2/ 97).
ومن محنة غزة، وُلدت المنحة، ولا أتحدث عن كونها منحة في حق الفلسطينيين، فحالهم أعظم وأجلّ من أن تحيط به الأقلام، هؤلاء يراوحون بين إحدى الحسنيين نصر أو شهادة، هؤلاء قد سطروا ملاحم يفغر لها فاه الزمان، وجيل هذه المحنة سيكتب الله على يديه النصر إن شاء الله تعالى.
لكنني أتحدث ها هنا عن المنحة التي أُهديت للأمة من خلال محنة غزة، وأهلها الذين ضخوا دماءهم في عروق أمتنا لتدب فيها الحياة من جديد، كحال غلام الأخدود، دفع حياته ثمناً لنهوض قومه من سباتهم.
أمة واحدة
لقد أحيت غزة الشعور بأمة الجسد الواحد من جديد، وهو الشعور الذي خفت بريقه مع تعدد الرايات والانتماءات، وسيطرتها على وجدان الشعوب، حتى غدا كل أهل قُطر بما لديهم فرحين، لا يكترثون لشيء سوى ما يحدث في نطاق حدودهم الجغرافية.
هذه الحرب أمسكت بتلابيب أبناء الأمة في المشارق والمغارب، وأخذت بحجزهم إلى تأييد وتعاطف غير مسبوقين مع القضية الفلسطينية، لا فرق في ذلك بين عربي وأعجمي، فكانت المظاهرات المؤيدة والفعاليات المثمرة في نصرة القضية في باكستان، وتركيا، وإندونيسيا، وغيرها من البلدان الإسلامية غير العربية، حتى الهند التي يئن مسلموها تحت وطأة الاستبداد الهندوسي، لم يتوان أهلها في نصرة القضية رغم خطورة وضعهم هناك.
في المساجد يقنت المسلمون في الصلوات بالدعاء لغزة والنصر على الأعداء، في خطب الجمعة عاد الحديث، بعد غياب، عن الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وضرورة نصرة الأشقاء في غزة، غدت الجماهير تتابع أخبار «طوفان الأقصى» بحماس كسابق حرصهم على متابعة مباريات الكرة، الناس على المقاهي وصالات الألعاب الرياضية والمنازل يتابعون بيانات أبي عبيدة، المتحدث باسم «كتائب القسام» كأنهم يتابعون رئيس دولتهم وقت الحرب.
يقظة الوعي
غزة قد أحدثت طفرة في وعي الأمة، وخلال شهر منذ اندلاع الحرب تكونت لدى الجماهير ثقافة سياسية وقدرات تحليلية للأحداث، وربطها ببعضها، وصارت على دراية بالموقف الغربي من بلاد الإسلام، وبرزت على السطح قضايا كان بحثها يدور في فلك المختصين والنخب الثقافية والسياسية، كأقدمية السكنى للعرب قبل مجيء اليهود إليها وحق العرب التاريخي في فلسطين، وحق المسلمين فيها باعتبار أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي تسلم الريادة في القدس في رحلة الإسراء والمعراج.
وعززت هذه الأحداث من اهتمام الناس بتفسير آيات سورة «الإسراء»، عن الإفساد والعلو لبني إسرائيل؛ (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً {4} فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً {5} ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً {6} إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) (الإسراء).
وراج بشدة على مواقع التواصل حديث الشيخ الشعراوي، رحمه الله، في ظلال هذه الآيات، والتبشير بأننا بانتظار المرحلة الأخيرة التي يسوء فيها المؤمنون وجوه بني إسرائيل ودخول «الأقصى»، وتدمير العلو «الإسرائيلي»، شرط استحقاق أن نكون عباداً لله بحق.
أسهمت أحداث غزة في يقظة الوعي بذلك التمايز غير المسبوق للصفوف، فكأنها فرقان، فرق الله به بين المنتمين لهذه الأمة وناصريها، وأعدائها وثلة النفاق التي اشرأبت أعناقها؛ وهذا يؤكد استعادة مركزية القضية الفلسطينية في نفوس الجماهير، بعد فشل التطبيع، وانكشاف أبعاد الصراع؛ صراع عقدي يصطف فيه الغرب الصليبي إلى جانب العدو «الإسرائيلي» الجائر.
البعث العقدي
من آثار المحنة على جماهير الأمة، ذلك البعث العقدي المتمثل في ارتباط الناس بنبوءات آخر الزمان، وهي من صميم الاعتقاد، إذ إنها تندرج تحت الإيمان بالغيب الذي أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على بعضه، فصار الناس يبحثون ويتساءلون ويتداولون أحاديث المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل التي ينطق فيها الحجر والشجر دالاً على اليهود، والأحاديث التي تنبئ بأن الدجال يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصفهان، وعن الملحمة الكبرى المذكورة في الأحاديث.
وأرى أن الأمة لم يسبق لها منذ عقود الاهتمام على هذا النحو بحديث الطائفة المنصورة: «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» (صحيح مسلم، 3/ 1524)، وعرْض هذا الحديث على أحداث غزة، والاستبشار بأن رجالها هم المعنيون، وبالجملة، فقد صار هناك تفاعل كبير من الناس مع هذه النبوءات والبشارات، وهو أمر كما أسلفنا من صميم الاعتقاد.
إيجابية وفاعلية
من أبرز آثار تحت المحنة، انتقال الجماهير من حيز التعاطف الوجداني إلى التحرك الفعلي على الأرض، لا أدل على ذلك من تفعيل سلاح المقاطعة لمنتجات الصهاينة وداعميهم على نحو غير مسبوق، وأصبح سلوكاً شرائياً تلقائياً أن يتجنب الناس شراء هذه المنتجات، وفي بعض الدول، وبسبب هذه المقاطعة، أُحييت منتجات محلية كانت قد اندثرت، وأصبح التجار لا يلاحقون سعي الجماهير لشرائها، بينما خفضت شركات المنتجات التي تمت مقاطعتها أسعار بضائعها بما وصل إلى 75%.
أما على مواقع التواصل، فالملاحظ أن مؤيدي القضية يخوضون في استبسال معركة وعي، بنقل وتداول المقاطع المصورة من قلب الحدث، والترويج لآثار المجازر الوحشية التي يرتكبها العدو في غزة، لتصل إلى شعوب العالم، والترويج لدلائل انتصارات المقاومة لرفع الروح المعنوية للأمة، والرد على الشبهات المثارة حول المقاومة، بل وصل التفاعل إلى ابتكار البعض وسائل بدائية لتنقية مياه الصرف لتصلح للشرب والتواصي بنشرها لتصل إلى أهل غزة، بينما ينشر البعض الآخر طريقة التعامل مع قنابل الفوسفور الأبيض، وغيرها من الحلول العملية.
الحديث عن تلك المنحة التي أهدتها محنة غزة للأمة أطول مما يتسع له المقام، لكن غزة قد وضعت الأقدام على الطريق، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده.