حديثنا هنا عن الصهيونية المستعمرة، واليهودية كلها لم تقم لها دولة في العالم منذ أكثر من سبعة وعشرين قرنًا، فلم تكن قط في عداد المستعمرين بقوة حكومتها وجيشها، وإنما كان عملها في الاستعمار أنها تستتر وراءه، وتمهد له، وتعتمد عليه في الاستغلال وامتصاص دماء الشعوب.
ولكنها دخلت في عداد المستعمرين منذ ابتليت فلسطين بتلك العصابة التي تسمى دولة إسرائيل، فلا وجود لها -ولا يتأتى أن تبقى في الوجود- إلا إذا عاشت على استغلال الشعوب من حولها، وليس من حولها شعوب تطمع في استغلالها غير الشعوب العربية.
إننا نسمع عن التوازن بين «إسرائيل» والعرب، ونعلم أن هذا التوازن يقضي بحرمان العرب من كل قوة حربية تزيد على قوة «إسرائيل»، أي يقضي بحرمان خمسين مليونًا أن تزيد قوتهم على قوة مليونين اثنين على أكبر تقدير.
وإذا تساوى العرب و«إسرائيل» في القوة الحربية، فمعنى ذلك أن «إسرائيل» أقوى من العرب جميعًا، لأنها تتصرف في قوة واحدة بإرادة واحدة، ولها بذلك فرصة أسرع على الأقل من فرص العرب مجتمعين.
لكن الواقع أن الموازنة الحربية ليست كل ما هنالك، وأن الموازنة الحربية لا تهم «إسرائيل» بمقدار ما تهمها القوة الصناعية والاقتصادية، وهي التي تجعلها قوة مستعمرة أخطر من جميع المستعمرين، لأنها لا تعيش بغير الاستعمار، ولا تجد لها مجالًا للاستعمار غير البلاد العربية.
إن الموازنة الحربية لا تهم «إسرائيل»، ولا تعتقد هي أن بقاءها متوقف عليها، لأن في العالم أممًا كثيرة لم تعتمد على الأسلحة الحربية في البقاء، و«إسرائيل» بصفة خاصة تعتقد أن الذين خلقوها سيبادرون إلى نصرتها ومعونتها إذا تعرضت للهزيمة في ميدان القتال، وقد تعرضت لها قبل بضع سنوات، فلم تنج من الهزيمة بفضل سلاحها وجندها، بل بفضل الدولة المتألبة لحمايتها وخذلان العرب في ميدان القتال وفي ميدان السياسة.
فالموازنة الحربية بين «إسرائيل» والعرب معناها رجحان «إسرائيل» على العرب مجتمعين، ولكنها -أي الموازنة الحربية- مع ذلك لا تهم «إسرائيل» كما تهمها قوة الصناعة والاقتصاد، لأنها تعيش بغير موازنة في السلاح، ولن تعيش بمواردها زمنًا طويلًا إلا إذا تفوقت على العرب في ميادين الصناعة والاقتصاد.
إن «إسرائيل» لن تعيش إلا بوسيلة من وسيلتين؛ فإما أن تظل عالة على التبرعات والمعونة الخارجية بغير انقطاع، ولا تستطيع دولة أن تعتمد على هذا المورد في تدبير وسائل البقاء الطويل.
والوسيلة الأخرى أن تعيش بمواردها في صناعتها ومرافقها التجارية والاقتصادية، وليس في استطاعتها أن تعيش بمواردها الصناعية وثروتها الاقتصادية حين يتقدم العرب في الصناعة، وحين تصبح لهم تجارة تناسب هذا التقدم في إخراج المصنوعات.
إذا عاشت «إسرائيل» فلا بد لها من الحصول على مواد الخامات بأثمان رخيصة، وهي لا تحصل على هذه المواد بالثمن الذي تقدر عليه حين تتقدم الصناعة في البلاد العربية، وحين تصبح مساوية للصناعة الكبرى أو الصناعة الصغرى في «إسرائيل»، فإن الأمة العربية التي تتقدم في صناعتها تستفيد بخاماتها، ولا تفرط فيها ليأخذها المنافسون لها في إخراج المصنوعات وبيع السلع ورخص الأثمان.
وإذا أرادت «إسرائيل» أن تعيش بمصنوعاتها، فلا غنى لها عن بيعها في الأسواق القريبة منها.
وإنها إذا أرسلتها إلى الأسواق البعيدة تضاعف ثمنها وعجزت عن منافسة الصناعة الأوروبية والأمريكية.
أما إذا أرسلتها إلى الأسواق القريبة فهي أسواق البلاد العربية، وهي لن تضمن الرواج في هذه الأسواق إلا إذا كانت تلك البلاد العربية بغير صناعة وبغير مصنوعات.
فتعجيز البلاد العربية إلى الأبد شرط لازم لبقاء «إسرائيل» معتمدة على مواردها، غير معتمدة إلى غير نهاية على صدقات المتبرعين ومعونة الحماة والنصراء من الدول الأجنبية.
ينبغي أن تظل البلاد العربية عاجزة عن التقدم الصناعي، فريسة للمستغلين من الصهيونيين، لتعيش «إسرائيل» بثروتها وموارد صناعتها.
ينبغي أن يضرب الحجر الأبدي على بلاد العرب، فلا تكون لها قوة تزيد على قوة «إسرائيل» في ميدان القتال، ولا تكون لها صناعة تعول عليها وتستغني بها عن الصناعة الصهيونية في أيام السلام.
ولا حاجة إلى كشف الأسرار ولا هدم الجدار للنفاذ إلى ما وراءه من الأغراض والأوطار.
فالمسألة بديهية ملموسة لا يختلف فيها قولان، ولا تقبل التصديق وإن اختلف فيها المكابرون والمغالطون.
إذا كان رجحان الصهيونيين في عدة الحرب واجبًا متفقًا عليه، وخطة مقررة في عرف حماة الصهيونية، فليس من المعقول أن يسمح للعرب بالرجحان في عدة الصناعة وموارد الثروة والمال، ولا حاجة إلى قراءة الضمائر الخفية للعلم بالمقاصد المبيتة لبلاد العرب جمعاء، فلن تقف تلك المقاصد دون تعجيز العرب في ميدان الحياة العصرية، وتقييد نهضاتهم وبرامج الإصلاح في أوطانهم كلما عملوا على تدبير ثروتهم وتوفير مصنوعاتهم والانتفاع بخاماتهم، والاستغناء بها عن السادة المتحكمين، أو السادة المستغلين في «إسرائيل».
وهذه هي الصهيونية المستعمرة، وهذا هو الاستعمار الصهيوني الذي لا يدانيه في الخطر استعمار قديم ولا حديث، لأنه يوصد طريق التقدم -من جميع جهاته- أمام خمسين مليونًا ليستغلهم مليونان، ولا ينتهي هذا الاستغلال بعد حين قصير أو طويل، بل يزداد ويتفاقم مع الزمن، وتتواطأ عليه القوى البارزة والمستترة، ممن يسمون هذا المسخ الأبدي توازنًا في الاستعداد والعدة بين العالم العربي وعصابة صهيون.
ومن خفي عليه الأمر في مبدئه، فقد برح الخفاء أمام عينيه عامًا بعد عام، فلا عذر له إن لم يفهم معنى وجود «إسرائيل»، وعاقبة وجودها بين العرب على تعاقب الأعوام.
إنها لم توجد لتعيش بمواردها.
إنها لم توجد لتعتمد على نفسها.
ولكنها وجدت لتخنق الحياة العربية من حولها، وتتقدم وحدها بصناعتها بين بلاد لا صناعة لها، ولا فائدة لها في العالم الإنساني غير امتصاص دمها لإحياء بنية طفيلية شاذة، تعطيها من فضلات الرزق ما تجود به عليها، كي تستبقي في عروقها بقية من الدم تمتصه وتعيش عليه.
موازنة في السلاح.. كلا! لا موازنة في السلاح إذا تساوت «إسرائيل» وبلاد العرب في القوة الحربية، لأن «إسرائيل» تملك فرصتها منفردة بمشيئتها، وليست قوة في يد واحدة كقوة موزعة بين الأيدي، وإن تكن على أتم وفاق.
إلا أن الخطب هين في هذه الموازنة بالقياس إلى موازنة أخرى أهم وألزم لـ«إسرائيل» من موازنة السلاح.
إن تعجيز العرب أجمعين عن مجاراة «إسرائيل» وحدها في ميدان الصناعة والتقدم أفدح خطوب الاستعمار منذ وجد الاستعمار، وهذا هو استعمار الصهيونية الذي يراد، ولا يستتر فيه المراد.
«وإن ربك لبالمرصاد».
_______________________
المصدر: كتاب «الصهيونية العالمية».