ربما لا يبدو في الظاهر أي دور للمرأة الغزاوية في العمليات العسكرية التي تقوم بها المقاومة ضد الاحتلال، فجل هذه العمليات يخطط لها ويقوم بها شباب أو رجال دون أن يكون للنساء فيها دور مباشر، فطبيعة الوضع الأمني تحتم على المنخرطين في عمليات المقاومة تلقي تدريبات في غاية الصعوبة والاختباء في أماكن ذات طابع خاص، فضلاً عن التغيب عن المنازل لمدد زمنية غير محددة، وهي كلها أمور يصعب على الغزاويات بمختلف فئاتهن التعاطي معها لظروف وحيثيات كثيرة، غير أن ذلك لا يعني أنه ليس للفلسطينية نصيب في عمليات المقاومة، فذلك إجحاف لدورها وتجاهل لتضحياتها.
ولعل دور المرأة الفلسطينية الداعم لـ«طوفان الأقصى» يبرز على مستويين؛ أولهما يتمثل في مرحلة التجهيز والإعداد، فلم يعد ثمة شك في أن عملية إعداد كوادر المقاومة لا تنحصر فقط في جانبها العسكري من ناحية التدريب على استخدام السلاح والمشاركة في المناورات أو حتى اكتساب القدرة على التخفي وغير ذلك، ولكنه قبل ذلك إعداد تربوي ونفسي.
وقد بدا أنه كان ولم يزل للمرأة الفلسطينية النصيب الأكبر من هذا الدور التربوي والنفسي، فالمعلوم أن أغلب عناصر المقاومة هم من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين عاماً، الذين ولد أغلبهم وعاشوا في ظل ما يسمى بمؤتمرات واتفاقات «مدريد» (1991م)، و«أوسلو» (1993م)، وكذلك نشأتهم خلال سنوات الحصار المفروض على غزة الذي يعود لنحو 17 عاماً، فضلاً عن معايشتهم للحروب التي شنها الاحتلال على القطاع في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021م.
ومع ذلك، فإن هؤلاء لم يتربوا على الخضوع أو الخنوع أو الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، فقد رضعوا منذ طفولتهم المبكرة كل معاني الصمود والمقاومة وحب الوطن والاستعداد للفداء والتضحية.
ومن قبل كل ذلك التربية على الالتزام بالصلاة والحرص على حفظ كتاب الله وتعلق القلوب بالمسجد الأقصى حتى وإن لم يروه، وقد عجزوا عن الذهاب إليه والصلاة فيه، وهي كلها سلوكيات ومعانٍ بثتها الأمهات الفلسطينيات في نفوس هؤلاء الأبناء الذين ما أن كبروا وشبوا عن الطوق وأصبحوا شباباً يافعين حتى انخرطوا في المقاومة، يلبون نداء «الأقصى» والوطن، وقد رسخ في نفوسهم التمسك به حتى الموت أو الاستشهاد على ترابه.
وكان يمكن للمرأة الفلسطينية خاصة الأمهات أن تترك لمشاعرها المرهفة أن تتسلل لنفوس المقاومة وعناصرها فتفت في عضدهم وتضعف من حماسهم وتزيدهم تمسكاً بالحياة الدنيا والسعي للنجاة بالنفس حتى ولو كان ذلك على حساب القضية والتفريط في ثوابتها، وهو ما لم تفعله بجهاد ووعي، فكانت طاقة هائلة غير محدودة تدفع أبناء المقاومة للإقبال بلا خوف أو وجل على صنع البطولات تلو البطولات في معارك الكرامة التي لن تتوقف إلا عندما يعود الوطن حراً.
نتائج وتداعيات
وأما المستوى الثاني لدور المرأة الفلسطينية في «طوفان الأقصى» فيتعلق بتداعيات ما بعد العملية، فقد اعتادت المقاومة الفلسطينية على أن يعقب كل عملية عسكرية لاستهداف الاحتلال رد فعل منه؛ الأمر الذي يستلزم الاستعداد النفسي من قبل الظهير الشعبي في غزة للتعامل مع رد الفعل، ومن ثم فإن ذلك الاستعداد جزء مهم من قدرات المقاومة ونجاح عملياتها.
وتجلى دور الفلسطينية الغزاوية في هذه المرحلة في قدراتها على التحمل والصمود الذي اتخذ أشكالاً متعددة يجدر بكل شكل منها أن يكون نبراساً مضيئاً لكل النساء في كل أنحاء المعمورة، فيضيف صفحة جديدة في سجل نضالها المشرف، ويثبت للجميع أن اصطفاءها من قبل الله تعالى لتكون في مقدمة الصفوف لم يكن عبثاً.
فعلى الجانب الإيماني يندر أن نجد امرأة غزاوية يائسة أو غير واثقة بالمقاومة، أكد ذلك جل المقاطع المصورة التي تناقلها ويتناقلها النشطاء كل لحظة على مواقع التواصل، فما أن تعلم الفلسطينية باستشهاد ابنها أو زوجها أو أخيها أو أبيها أو أي أحد من ذويها حتى يعلو صوتها بالحمد، والتأكيد على الرضا بقضاء الله سبحانه، وهو فعل المجاهدين الذين بسلوكهم هذا يبقون روح الحماسة والرغبة في المواصلة.
كذلك ووسط كل هذا الكم من الدمار والتخريب والقصف المتواصل من قبل الاحتلال لم تتخل المرأة الغزاوية عن تدينها أو إظهار تمسكها بحجابها، حتى إذا ما تعرضت للقصف كانت على حجابها سواء في حال نجاتها أو في حال استشهادها.
تضحيات ثمينة
أما فيما يخص التضحيات، فالحديث يطول بلا نهاية، فالمرأة الفلسطينية أضحت هدفاً رئيساً للاحتلال، وهو ما أكده المتحدث باسم «سرايا القدس»، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، حينما قال: «إن الاحتلال «الإسرائيلي» عجز عن مواجهة المقاومة؛ فصب غضبه على النساء والأطفال»، وهو ما تدعمه الأرقام؛ فقد بات معلوماً أن أكثر من 70% من شهداء الاعتداءات الصهيونية من النساء والأطفال.
ويكفي أن ننظر إلى ما قدرته الهيئات والمنظمات الدولية بشأن ما تعرضت له المرأة الفلسطينية في غزة، فوفق تقارير صادرة عن الأمم المتحدة، والاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، فإن نحو 700 ألف امرأة وطفلة نزحن نتيجة العدوان ولجأن إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) والشوارع والخيام في ظروف صحية وإنسانية صعبة.
وبطبيعة الحال، فقد زادت الاعتداءات الصهيونية من أعداد الأرامل في القطاع، فبحسب بعض التقديرات تسبب العدوان حتى اللحظة في إضافة أكثر من 1000 امرأة أرملة مضطرة لأن تعيل أسرهن بعد وفاة شركائهن الذكور، فتكون معاناة مضاعفة تتحملها فقط المرأة الغزاوية.
وتأتي مأساة الحوامل في غزة فاضحة كاشفة لضمير العالم المزيف، ففي الوقت الذي يجب أن تحظى فيه أي امرأة حامل بالرعاية الصحية في الوقت الذي غاب الحد الأدنى من الحياة الآدمية لنحو 50 ألف غزاوية حامل يفترض أن تضع نحو 5 آلاف منهن أولادهن خلال أسابيع؛ ما اضطر بعضهن لوضع أبنائهن في الشارع وفي الخيام مع غيبة تامة لكل متطلبات الولادة الصحية الآمنة.
وأخيراً، فإن ما سبق لم يكن إلا بعض ملامح من واقع مؤلم تتزاحم صوره ومشاهده التي لم تعد خافية يراه الجميع ويعلمه، غير أن الصمت بات سيد الموقف، لا يهزمه إلا صمود الفلسطينية في غزة الأبية.