كانت الدهشة تلاحقني، كلما تداولت المنصات الإعلامية والصحفية، خبراً عن إنجاب زوجة أسير فلسطيني عن طريق نطف منوية من زوجها الأسير، تم تهريبها من أحد سجون الاحتلال «الإسرائيلي».
تساؤلات عدة تدور في ذهني، دون إجابة: ما هذا الصمود؟! وكيف جاؤوا بالأمل؟! وإلى متى سيقاومون؟! وهل النطفة تلك ستجلب النصر؟! وماذا سيفعل هذا الحيوان المنوي في حرب التحرير والاستقلال؟!
لكن الإجابة كانت على أرض الواقع، يوم 7 أكتوبر 2023م، حينما زحفت جحافل المقاومين تدك المحتل، وتدمر حصونه، وتكسر هيبته، وتمرغ أنفه، وتأسر المئات من مغتصبيه، وتبث الرعب في صفوفه.
الأمر ذات دلالة ورمزية، أكبر من نطفة تم تهريبها، إلى روح مقاومة تسري من جيل إلى آخر، ومن أب أسير إلى مولود جديد، سيحمل راية الجهاد، وسيناضل من أجل تحرير قدسه وأقصاه.
إنه إصرار الفلسطينيين على البقاء، على التمسك بالأرض، والعزة، والكرامة، والأمل في انتصار سيأتي لا محالة، ولو بـ«حيوان منوي»، يغرسه في رحم زوجته، من خلف الأسوار، لتنتقل جينات المقاومة إلى جيل جديد.
تعود فكرة «النطفة المحررة الأولى» للأسير الحمساوي عمار الزبن من الضفة الغربية، الذي رزق بابن لقبه الفلسطينيون بـ«سفير الحرية»، ليكمل مسيرة الأب الحمساوي الذي يقضي منذ العام 1997م حكماً بالسجن مدى الحياة؛ بتهمة التخطيط لشن هجمات ضد الاحتلال «الإسرائيلي».
تعبر الزوجة دلال الزبن عن فخرها بكونها أول زوجة أسير فلسطيني في قطاع غزة حملت عن طريق النطف المهربة عام 2012م، قائلة، بحسب «وكالة الصحافة الفرنسية» (أ ف ب): أنا فخورة جداً أنني جعلت الحياة جميلة في عيون زوجات الأسرى الذين لم يكن لديهن أبناء.
تواصلت مسيرة النطف المنوية المحررة، ففي عام 2015م، رزق الأسير أحمد السكني من غزة الأبية بتوأمين (معتز، وسوار)، وهو يقضي حكماً بالسجن لمدة 27 عاماً؛ بتهمة الانتماء لحركة الجهاد الإسلامي ومقاومة الاحتلال، وذلك عن طريق عملية تلقيح اصطناعية خضعت لها زوجته بعد أن تم تهريب نطفة منوية منه.
وتقول زوجة الأسير من حركة «حماس» إسلام حامد بعدما وضعت توأميها (محمد، وخديجة) عبر النطف المحررة، عام 2021م: نحن بالنطف المهربة ننجب ونتحدى الاحتلال.
يقول د. بهاء الغلاييني، الذي أشرف على إحدى عمليات التلقيح في قطاع غزة: إن النطفة المنوية يمكن أن تعيش حتى 72 ساعة، حيث يتم نقلها من سجون الاحتلال «الإسرائيلي» في القدس إلى غزة، وتجميدها في درجة حرارة منخفضة جداً، وبذلك يمكن الحفاظ عليها حية لوقت طويل لتتم عملية تلقيحها في الأنبوب.
نطفة منوية من جسد مقاوم، يتم نقلها سراً من سجون الاحتلال «الإسرائيلي» في القدس إلى قطاع غزة، بواسطة والده الذي يزوره في السجن ويشرف بنفسه على عملية التهريب، ليسجل الفلسطينيون -بفضل الله- معجزة نضالية وطبية في الحفاظ على الحيوانات المنوية حتى تصل إلى غزة حية، ويتم تلقيح الزوجة بها.
من الجدير بالذكر أن العائلات الفلسطينية تقوم بالتمهيد للأمر، عبر اجتماع يضم عائلتي الزوجة والزوج الأسير، يجري خلاله إخبار الأهل والجيران، حتى يكون الأمر متوافقاً مع الشرع والعرف، وذلك بعد إجازته فقهياً ودينياً، وسط بهجة باستمرار نسل الأسير، وتحدي إرادة المحتل، واعتبار ذلك شكلاً من أشكال المقاومة الفلسطينية.
ويقدر عدد الأطفال الفلسطينيين المولودين نتيجة تهريب النطف من آباء معتقلين في السجون «الإسرائيلية» بـ96 طفلاً، بحسب نادي الأسير الفلسطيني.
إنهم يسطرون تاريخاً، في التمسك بالحياة، ليس رغبة في دنيا زائلة، وقد انتفت شهوة الأسير، وحُرم من ممارسة غريزته الطبيعية، لكنه يُهرب سائله المنوي من أجل إنجاب جيل جديد يتسلم الراية، يسترد الأرض، يحرر الأسير، يأخذ بثأر الشهيد.
النطف المحررة وسيلة من وسائل المقاومة، تتحدى سجون الاحتلال «الإسرائيلي»، وتكسر جدار اليأس والإحباط، وتغرس بذور الكفاح والنضال، عبر جيل جديد سيصنع الطوفان يوماً ما، وقد صنعه بالفعل، وسيعيد تكراره ثانياً.
رغم الحصار والسجن والظلم والقهر والقمع والقصف بالطائرات والصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً، هناك حياة تخرج من السجون، هناك حيوان منوي يصر على البقاء من أجل قضية عادلة، ووطن يبحث عن حريته.
المقاومة بالحيوانات المنوية، إبداع من نوع جديد، يقف أمامه التاريخ، وهو يرى على أرض الواقع رسالة حياة وحرية، وبارقة أمل من الأسرى، الذين يتحدون الاحتلال وقيوده وسجونه، فيغرسون جينات المقاومة في رحم زوجاتهن، ليولد جيل جديد يقهر المحتل، ويدك حصونه، وينكس رايته.
إنهم يناضلون بـ«حيوان منوي»، فكيف لا ينتصرون؟!