الناظر لجيل أطفال غزة الذي يعاقَب جماعياً، يتساءل: كيف ستكون علاقة من بقي منهم على قيد الحياة بالمجتمع الخارجي حين يصبحون شباباً ورجالاً صناعاً للقرار في مجتمعهم؟ كيف سيخاطبون وينظرون إلى العالم الذي تخلى عنهم وزادهم معاناة وغربة وانعزالاً؟ وكيف سيعاملون عدوهم الذي أذاقهم وأهليهم الويلات؟ هل ستتولد فيهم تحديات البطولة، أم مشاعر الانتقام، أم خور اللامبالاة؟ إن ما يحدث لهم صرخة مدوية لعلها توقظ الضمير العالمي الغافل وتثير شعوره بالعار لسكوته عن جرائم الاحتلال التي لم يسبق لها مثيل.
ماذا يُنتظر من أبرياء صغار وجدوا أجساد آبائهم تتحول إلى تربة البيت بعد هدمه، وتحول نومهم الطفولي إلى كابوس خانق؟! ماذا تنتظر من التي كانت تلقم صدر أمّها الميتة، أو حط على رأسها يد أخيها شلواً ممزقاً يقطر دماً؟!
ماذا كان شعورهم وهم يرون موت أهليهم من الجوع والعطش، وجيرانهم من الحرائق والدخان؟! وماذا تُحدث الآن في عقولهم انفجارات القنابل الهائلة حين قذفت، وزلزلة البيوت والمدارس حين هُدمت؟
أجيال الصراع
تجيب مجلة «فوربس» الأمريكية، فتقول: إن الأطفال يتحملون وطأة الصراع المتصاعد حالياً، مضيفة أن الضرر النفسي المتمثل في الخوف المستمر على حياتهم، ورؤية الدمار الكارثي لمنازلهم وممتلكاتهم، والتشريد المؤقت أو حتى الدائم، والمعاناة من انعدام الأمن الغذائي، لها عواقب طويلة الأجل.
وتقول كاتبة المقال اليهودية: لقد تعرض العديد من هؤلاء الشباب، وما زالوا، لمواقف من الإرهاب والرعب الذي لا يوصف؛ ونتيجة لذلك، ظهرت ثقافة الحرب التي يمكن أن تسبب ضائقة طويلة الأمد وتعطل النمو النفسي والأخلاقي، وهذا بدوره قد يضع الأساس لأجيال من الصراع في المستقبل، إن رؤية العنف من حولهم والظلم أيضاً يجعل الأطفال عرضة للانضمام للجماعات المسلحة؛ مما يديم الحلقة المفرغة(1).
ذكريات الدم والدموع المريرة
إن التداعيات طويلة المدى لإرهاب الاحتلال المستمر الذي لا يرحم، والصدمة، وإيذاء شباب غزة أمر مريع، وأولئك الذين ينجون سوف يكبرون حزانى، خائفين، غاضبين، منعزلين، شاعرين بالذنب، وباحثين عن الانتقام، أو على الأقل، إذا حكمنا من خلال تجارب الماضي، فإن العديد منهم سيفعلون ذلك، سوف يسألون: من قتل إخوتهم وأخواتهم، وآباءهم، وأصدقاءهم؟ ولماذا فعلوا بهم ذلك؟! وسيسألون: ماذا فعل العالم لوقف القتل؟ وستطاردهم ذكريات الدم والدموع المريرة، وسيطالبون بالعدالة، والبعض، مثل كثيرين من قبل، قد يأخذون زمام الأمور بأيديهم حيثما استطاعوا(2).
لقد ألقت الحرب الراهنة ضد أهل غزة بتداعيات واسعة على شتى مناحي الحياة داخل القطاع المكتظ بالسكان، وستكون لها آثار طويلة الأمد مع هؤلاء الذين عايشوا القصف والدمار لتخلّف في ذاكرتهم مآسي نفسية، قد تستمر طوال الحياة، والأطفال هم الشريحة الأكثر عرضة، في غزة تعرض أي طفل يبلغ من العمر 15 عاماً لـ5 فترات من القصف المكثف المميت في حياته؛ أعوام 2008، 2012، 2014، 2021 والآن 2023م.
اضطراب ما بعد الصدمة
أظهرت الدراسات التي أجريت بعد اعتداءات السنوات السابقة أن غالبية الأطفال في غزة تظهر عليهم أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، بعد عملية عام 2012م، وجدت «يونيسف» أن 82% من الأطفال كانوا يخشون الموت الوشيك بشكل مستمر، وقبل الحرب الأخيرة بعامين وبسبب التصعيد العنيف في مايو 2021م، خلفت الحرب أثراً مدمراً على الأطفال وأسرهم، فقد أزهقت الأرواح وتمزقت الأسر، ودمرت المدارس والمرافق الصحية، وسويت المنازل بالأرض، وهجّرت أسر بأكملها، وقبيل تصاعد ذلك العنف كان ثلث أطفال غزة بحاجة بالفعل إلى الدعم في مجال الصدمة المتصلة بالنزاع(3).
وكآثار لحرب عام 2012م، أبلغ 91% من الأطفال عن اضطرابات في النوم أثناء النزاع؛ قال 94%: إنهم ينامون مع والديهم؛ وأبلغ 85% عن تغيرات في الشهية، و82% شعروا بالغضب، و97% شعروا بعدم الأمان، و38% شعروا بالذنب، و47% كانوا يقضمون أظافرهم، وأبلغ 76% عن الحكة أو الشعور بالمرض(4).
غزة مقبرة لآلاف الأطفال
وقبيل هذا الكابوس الأخير في عام 2023م، ارتفع عدد المصابين نفسياً من الأطفال كثيراً، فقد تم تحديد أكثر من 800 ألف طفل في غزة –أي ثلاثة أرباع إجمالي عدد الأطفال في القطاع– على أنهم بحاجة إلى الدعم الصحي النفسي، والدعم النفسي الاجتماعي(5).
وبالإضافة إلى آلاف القتلى، فإن العدد الهائل ممن صدموا نفسياً سيظهر عندما يتوقف القتال، وسيتحمل العالم التكلفة الباهظة للصدمة النفسية على الأطفال ومجتمعاتهم.
300 غارة في يوم واحد
وكشف تقرير نشرته «الجارديان» أن الأطفال في غزة باتوا يعانون من أعراض الصدمة الشديدة، بالنظر لمشاهد القتل والدمار التي عايشوها، كانت ذروتها حين نفذ جيش الاحتلال «الإسرائيلي» 300 غارة جوية جنونية على القطاع في يوم واحد، ونقلت الصحيفة عن طبيب نفسي في غزة قوله: إن التأثير النفسي للحرب بدأ يظهر على الأطفال، خاصة ما يتعلق بـ«الصدمات النفسية الشديدة»، التي تشمل أعراضها: الخوف، والعصبية، والتشنجات، والسلوك العدواني، والتبول في الفراش، وعدم ترك والديهم أبداً(6).
وصمة عار
الآن تعرض كل طفل في قطاع غزة تقريباً لأحداث وصدمات مؤلمة للغاية، اتسمت بالدمار واسع النطاق، والهجمات المتواصلة، والنزوح، وانعدام الضروريات الأساسية من الغذاء والماء والدواء والكهرباء، وقالت المديرة الإقليمية لـ«يونيسف» في الشرق الأوسط: إن قتل وتشويه الأطفال، والهجمات على المستشفيات والمدارس، ومنع وصول المساعدات الإنسانية؛ تشكل انتهاكات جسيمة لحقوق الأطفال، وأضافت أن الوضع في قطاع غزة يشكل وصمة عار متزايدة على ضميرنا الجماعي، وأن معدل الوفيات والإصابات بين الأطفال صادم(7).
الاحتلال أصل المشكلات
وفيما يتعلق بالصحة النفسية، فالاحتلال في حد ذاته يعتبر أهم مسببات المشكلات، ويعد الاكتئاب واضطراب القلق والكرب النفسي أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً، وقد أظهرت أبحاث أجريت في القدس الشرقية أن الأضرار النفسية الناجمة عن أنشطة الهدم والإخلاء القسري يكون تأثيرها أقوى على النساء، كما أن تعرض الفلسطينيين للسجن خاصة الذكور في سجون الاحتلال له تأثير قاس، عليهم وعلى أسرهم، وقد قضت نسبة كبيرة من السكان فترة في السجن، وترافق ذلك مع تأثيرات نفسية ضارة طويلة الأمد، وعواقب حادة على الصحة النفسية للأطفال، كما أن الوقت الذي يقضيه الأطفال قيد الاحتجاز يمثل فترة مشحونة بالضغط العصبي المزمن، والصدمات النفسية (تهديدات هائلة يصحبها خوف وقلة حيلة شديدان)، والشعور بالوحدة، وفقدان الثقة في الكبار، وربما حتى في والديهم(8).
أما النساء والفتيات (بعد عدوان عام 2021م) فقد سيطرت عليهن مشاعر الخوف والقلق وعدم الأمان وعدم الحماية وفقدان الأمل في الحياة وتوقع الموت في كل لحظة، وقد ذكرن بأنهن ما زلن يشعرن بعدم الأمان والخوف حتى بعد وقف العدوان ويخشين أن يتكرر.
وكانت النساء النازحات والجريحات وذوات الإعاقة والأرامل، هن أكثرهن خوفاً، كما تسبب العدوان في حدوث مشكلات نفسية عديدة لديهن مثل شعورهن بالقلق والتوتر والعصبية والانفعال الزائد، والخوف الشديد واضطرابات النوم، واضطرابات الأكل، والحزن والبكاء المستمر، والشعور بفقدان الأمل بالمستقبل وغيرها من المشكلات(9).
هل رأيت معي في التلفاز صور ومقاطع تفاعل أطفال غزة الذين بقوا على قيد الحياة؟ رغم ما يلاقون مما يفطر قلب المشاهد، لكن وراء دموع هؤلاء الأطفال ثقة وقوة يقين ورضا وثبات وصمود وصبر، رغم أن ما خفي من آثار الحصار والدمار على نفوسهم ومشاعرهم وسلوكهم أعظم من أن يُفهم.
لن ينسى الأطفال ما يحدث، ولسان حالهم يقول: يا أيها العالم اللامبالي، انتظرونا حينما نكبر.
____________________________
(1) Joshua Cohen, Israel-Hamas war takes a huge toll on children’s mental health, Forbes, 21 October 2023.
(2) Simon Tisdall, What will the children who survive the onslaught of Gaza think of those who let it happen? The Guardian 22 October 2023.
(3) اليونيسف، الأطفال هم من يتحملون أشد وطأة العنف في غزة، 26 مايو 2021.
(4) WHO, Health conditions in the occupied Palestinian territory, 10 May 2013.
(5) اليونيسف، لقد أصبحت غزة مقبرة لآلاف الأطفال، 31 أكتوبر 2023.
(6) Harriet Sherwood, Children in Gaza ‘developing severe trauma’, The Guardian 22 October 2023.
(7) اليونيسف، الأطفال الضحايا في غزة هم «وصمة عار على ضميرنا الجماعي لا تنفك تتزايد»، 24 أكتوبر 2023.
(8) منظمة الصحة العالمية، تقييم ميداني للأحوال الصحية في الأرض الفلسطينية المحتلة، فبراير 2016.
(9) صندوق الأمم المتحدة للسكان، تقرير احتياجات النساء والفتيات الملحة والعاجلة بعد عدوان مايو 2021.