هل استطاعت الدراما العربية التعبير عن المقاومة ضد العدوان في واقع الأمة؟ من المهم طرح هذا السؤال، لما للدراما من تأثير هائل في نفسية المشاهد العربي، وتشكيل وعيه ومواقفه وتوجهاته، فالمسلسلات تتفوق على السينما؛ لكونها تدخل كل بيت، عبر قنوات الإرسال الأرضي في الماضي البعيد، والقنوات الفضائية في الماضي القريب والزمن الحالي، وأيضاً عبر قنوات التلفزة الخاصة، أمثال شبكة «شاهد»، وشبكة «نتفلكس»، ناهيك عن مواقع الإنترنت التي تعرض المسلسلات، وفق رغبة المشاهدين، ومتى أرادوا، فالدراما غرام لا ينتهي، تتعدد روافده، وتكثر أشكاله.
لذا، إنه من الأهمية بمكان طرح قضية تعبير الدراما عن قضية المقاومة، بوصفها فناً مهتماً بالتعبير عن مشكلات الإنسان العربي؛ الاجتماعية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية، بدلاً من إغراق صناع الدراما في موضوعات تنأى عن واقع الإنسان العربي؛ مثل جرائم القتل، والخيانة الزوجية، وعصابات «المافيا»، وما شابه، مستخدمة حبكات مشوقة، لاستقطاب ملايين العيون، دون النظر إلى الآثار السلبية لها.
الأمة تكاد تفتقد بوصلتها الثقافية وتصاعدت موجات الغزو الفكري إما بالمسلسلات الأمريكية أو المدبلجة
الأمر اشتد، بل توحّش في السنوات الأخيرة، بعد انسحاب الحكومات من تمويل إنتاج المسلسلات الدرامية، واقتصار ذلك على شركات القطاع الخاص، التي يمولها رجال الأعمال، وأعينهم مصوبة على جني الأرباح الكبيرة، من القنوات الفضائية التي تتنافس لنيل النصيب الأكبر من خريطة الإعلانات، والاشتراكات الخاصة، فالعملية برمّتها باتت تجارية، ولا عزاء للقيم والأخلاق وقضايا الأمة، التي نادراً ما تثار بشكل واعٍ، ومسؤول من قبل كتّاب السيناريو، الخاضعين لنظرية السوق.
فالقناعة السائدة لدى المنتجين، ومسؤولي القنوات الفضائية، أن سبل جذب المشاهدين تعتمد على مسلسلات يقوم ببطولتها نجوم مشاهير، وتطرح موضوعات ساخنة عن العلاقات الغرامية، والصراع من أجل الحبيبة الفاتنة، والأمر نفسه ينطبق على السينما.
فللأسف، إن الأمة العربية تكاد تفتقد بوصلتها الحضارية والثقافية؛ وهو ما انعكس على نوعية الأعمال الفنية المقدمة للمشاهد، بعدما انكشفت خاصرة الأمة، وتصاعدت موجات الغزو الفكري، إما بالمسلسلات الأجنبية الأمريكية، أو المدبلجة (الهندية والتركية والكورية)، وسارت على نهجها المسلسلات العربية، في تقديم دراما العشق، و«الأكشن»، والخيال العلمي، وقصص الرعب، و«الكوميديا»، بل إن القنوات الفضائية ترفض شراء أي عمل جاد، يتعلق بالمقاومة الفلسطينية، وخير مثال على ذلك مسلسل «عياش»، الذي يتناول حياة أحد قادة المقاومة الفلسطينية، وهو المهندس يحيى عياش، وقد أُنتج في سورية عام 2005م، ولم تقم أي قناة حكومية أو خاصة بشرائه، أو عرضه، واكتفى صنّاعه ببثه على مواقع الإنترنت، علماً أن المسلسل رائع في قصته وأحداثه وجمالياته، وينتصر لبطولة الشهيد عياش.
واقع الدراما العربية
وبالعودة إلى السؤال المتقدم في بداية المقال عن الدراما والمقاومة الفلسطينية، فلا شك أن واقع الدراما العربية في السنوات الأخيرة، يختلف جذرياً عما كانت عليه في حقبة التسعينيات من القرن العشرين، حينما اهتمّ صناع الدراما في الساحتين اللبنانية والفلسطينية والسورية، بإنتاج مسلسلات عن المقاومة الفلسطينية، واستمرت الحال إلى سنوات قريبة؛ مما أوجد تراكماً فنياً وإبداعياً رائعاً، وقدّم ذاكرة بصرية وجمالية للمشاهد العربي، عن المقاومة الفلسطينية، وما أدّته من أعمال بطولية خالدة، خاصة أن كل المسلسلات التي أُنتِجت خلال هذه الفترة مأخوذة عن قصص وروايات حقيقية، تدحض الرواية الصهيونية، وتقدّم نماذج فريدة للمقاومين، ولواقع النكبة الفلسطينية، وللأسف، فإن هذه المسلسلات لا تجد حظها من إعادة العرض في القنوات الفضائية، شأنها شأن مسلسلات أخرى، ملّ المشاهدون من تكرار عرضها.
الجمهور العربي الداعم الأساسي للمقاومة ولا بد من توثيق تاريخ النضال الفلسطيني بالصوت والصورة
فالجمهور العربي الحاضنة الأولى والداعم الأساسي للمقاومة، ولا بد من توثيق تاريخ النضال الفلسطيني بالصوت والصورة، مثلما فعل الإعلام الصهيوني، الذي وجد دعماً كبيراً في أفلام «هوليوود» المؤيدة لقضاياه، والمروّجة لطروحاته، وأيضاً ما حرصت عليه «إسرائيل» من تقديم أعمال درامية تدعم الرواية الصهيونية الرسمية، التي ترى أن «إسرائيل» واحة للديمقراطية والحريات والتقدم العلمي، في محيط عربي، متخلف حضارياً، يعاني من الاستبداد والفساد.
والأمر اشتد مع دعوات التطبيع المتعالية في العقد الأخير، وقد روّجت أن «إسرائيل» تمثل نموذجاً نهضوياً متقدماً علمياً، علينا الاستفادة منه، والتعايش معه، وكانت هناك مسلسلات عربية تروّج لهذه السردية، وترى أن اليهود كانوا جزءاً من المجتمع العربي، قبل نشوء «إسرائيل»، فلماذا ينبذها العرب الآن؟
ومن أبرز هذه المسلسلات، مسلسل «أم هارون» (2022م)، ومسلسل «مخرج 7» (2020م)، ومن قبلهما مسلسل «حارة اليهود» (2015م)، وكلها تقدم صورة مثالية عن اليهود، وتفوقهم العلمي، واندماجهم في المجتمع العربي، وبالطبع، تتغافل عن الوجه الآخر الدموي للكيان الصهيوني، وما قام به، ولا يزال، من مذابح لتهجير الشعب الفلسطيني، وإسكات تاريخه، ومحو هويته.
مسلسل «التغريبة الفلسطينية»
ومن أبرز المسلسلات العربية عن المقاومة، مسلسل «التغريبة الفلسطينية» (2004م)، وقد أُنتِجَ في سورية، ويتناول قصة أُسرة فلسطينية فقيرة كافحت وناضلت إبان الاحتلال البريطاني، وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى، وما حدث لها في مخيَّمات اللجوء بعد «النكبة»، فهو مسلسل يتتبع زمنياً مآلات المأساة الفلسطينية من سنوات الثلاثينيات إلى الستينيات من القرن العشرين، وصولاً إلى هزيمة يونيو1967م.
المقاومة الفلسطينية على امتداد تاريخها نجحت في تقديم سردية كبرى تحتاج عشرات المجلدات لتوثيقها
وعن رواية «عائد إلى حيفا» للأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1936 – 1972م)، أُنتِجَ مسلسل حمل نفس عنوان الرواية، عام 2004م، والمسلسل يؤرخ لـ«النكبة».
أما مسلسل «الاجتياح» (2007م)، فقد تناول الأحداث الدموية التي رافقت مع عملية «السور الواقي» الصهيونية عام 2002م بإعادة احتلال الضفة الغربية، واجتياح مخيم جنين، وهو بمثابة توثيق بديع لبطولات المقاومين الفلسطينيين ضد الصهاينة.
وفي عام 2017م، أُنتِج المسلسل الفلسطيني «الفدائي»، من إنتاج «شبكة الأقصى الإعلامية»، وقد عرض الجزء الأول قضايا من الواقع الفلسطيني، وبعض العمليات الفدائية لمقاومين، وأظهر قضية معاناة الأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، وقدّم محاكاة لواقع حياتهم اليومية مع السجان وعملاء الاحتلال المنبثين بين السجناء، وقد أُنتج الجزء الثاني عام 2019م، فيما أطلقت قناة «الأقصى» الفضائية الجزء الثاني من المسلسل الذي عرض على القناة خلال شهر رمضان 2017م، ونال مشاهدة عالية.
والمفارقة أن جزأي هذا المسلسل صُوّرا بكاميرا واحدة، مما ساهم كثيراً في ضغط تكاليف الإنتاج، وفتح المجال لإنتاج نوعية من المسلسلات قليلة التكلفة، وهذا ما نريده، ونستشرف من خلاله مستقبل دراما المقاومة الفلسطينية، بدلاً من الشكوى المستمرة من قبل صنّاع الدراما، أن هذه النوعية من المسلسلات عالية التكلفة في التصوير والديكور والملابس، فالمستهدف تقديم صور من البطولات الرائعة والفريدة والخالدة للمقاومة الفلسطينية، التي تجاوزت في إبداعاتها الأشكال التقليدية للمقاومة، وصارت تصنّع الصواريخ والمسيّرات ومختلف الذخائر، وهو ما رأيناه بأعيننا في عملية «طوفان الأقصى» التي أعجزت الكيان الصهيوني.
لقد نجحت المقاومة الفلسطينية على امتداد تاريخها، وإلى يومنا؛ في تقديم سردية كبرى، تحتاج إلى عشرات المجلدات لتوثيقها في كتابة إبداعية وقصصية، وهي بمثابة منجم لا ينفد للدراما العربية، والأمر فقط يستلزم همّة، وإرادة، لدى صنّاع المسلسلات، كي يقدموا للجمهور العربي نماذج يقتدون بها، ويفخرون بمنجزها.